الأهرام
محمد الرميحى
فنون دون رسالة !
وشهر رمضان يودعنا ، فإن هناك بين 25 و 35 مليون عربى على الأقل كما تقول لنا الإحصائيات، قد شاهدوا المسلسلات العربية التى عرضت فى رمضان، فى نحو 200 محطة تليفزيونية على امتداد الوطن العربى وخارجه ، ثلاثون يوما تسمرت عائلات وجماعات وأفراد أمام تلك الشاشة كى يحضروا هذا المسلسل أو ذاك، فى معظم الأوقات انصرف بعضهم بعد عدد من الحلقات الى أماكن أخرى لتمضية الوقت، لانهم فقدوا التشويق، وعندما وصل بعضهم الى برامج الترفيه كانت الصدمة أعظم وجدوا هناك كما من السخافات، هل هذا ما يستحقه المشاهد العربي؟.فى العقود الأخيرة أصبح الترفيه فى رمضان صناعة كبرى ، وتطورت اشكاله من (فوازير ومسابقات) فى السابق الى مسلسلات درامية فى العقود الأخيرة. معظم تلك المسلسلات تستحق النقد الصريح ، قلت معظم ولا أريد أن اعمم، مع الاحترام العميق للعاملين من النجوم و المخرجين و الكتاب بل وحتى الممولين والمنتجين ، ربما كانت نياتهم طيبة، الا ان الحصيلة الأخيرة مخيبة للآمال، لقد سقطت وجوه كبيرة فى هذا الفصل من مسلسلات رمضان، كررت نفسها ولم تعد قادرة على الابتكار والتنويع لصالح جذب المشاهد وتطعيم الثقافة العامة بما هو صالح ومفيد . استهلك فى هذه المسلسلات كميات ضخمة من السجاير ، والشيشة،بعض الممثلين لم تترك السيجارة فمه او يده ،وتلك ظاهرة لم ينتبه اليها بعد كثير من المخرجين انهم يشجعون تلك العادة السيئة ، و بعض المسلسلات كانت (الثيمة) الرئيسية فيها هى الخداع والزواج السرى وتعدد الأزواج ( نعم الأزواج) وليس خطأ مطبعيا! و ترويج المخدرات وصراعات العالم السفلى والخيانة الزوجية طبعا، اما الصراخ فحدث ولا حرج، خاصة فى المسلسلات الخليجية، ولم تنج منها المصرية، أيضا وفى بعض الأوقات ارتكاب جرائم التزوير وحتى القتل.

لم يكن هناك بُعد تعليمى واضح المعالم او خفى ، او توجيه أخلاقى فى صورة دراما ناضجة، ولم تسأل فرق العمل نفسها عند الشروع ، ماذا نريد ان نقول للناس ؟ كان العنف سيد الموقف و الضرب هو الأداة الأكثر فاعلية، خصوصا ضرب النساء ! ربما يقول احدهم ان هذا ما يرغب فيه المتلقي، وهو مؤشر النجاح بالنسبة له ، طبعا امام الفحص العقلانى تلك حجة واهية، فالعمل الدرامى يقود ولا يقاد، خاصة فى ظروف معقدة مثل هذه الظروف التى تمر بها المجتمعات العربية اليوم من تراجع فى القيم وتحديات تنموية بالغة الخطورة . فى مرحلة سابقة اجتاحت الشاشات العربية الدراما التركية المدبلجة، وعرضت تلك الدراما فى الخلفية مناظر وأماكن جميلة بل ساحرة للريف و المناطق السياحية التركية، بل من الصعب كما تابعت ان ترى ممثلا او ممثلة وهو يحمل بين يديه سيجارة! مما أدى فى غضون سنوات قليلة الى ازدهار غير مسبوق فى حجم السياحة العربية الى تركيا، هل يغفل العاملون فى الدراما العربية هذا البعد الترويجى للأوطان، أم يتعمدون ظهور الحارات و الازقة و المهملات فى الشوارع على انه (الواقعية) و هل تنتشر تلك الواقعية فى كل الاعمال تقريبا دون استثناء ! يحضرنى فيلم يحيا الحب الذى غنى فيه محمد عبد الوهاب اغنيته الرائعة ، عندما يأتى المساء ، كانت الاغنية تنساب حيث يشاهد المتابع فى خلفيتها النيل الرقراق وهو يجرى هوينا خلف البلكونة التى كانت يصور فيها المشهد، ويذكر جيلى اناقة يوسف وهبى وعماد حمدى و كمال الشناوى فى بدلات انيقة لا بنطلونات جينز ممزقة ، واغانى عبد الحليم على شواطئ الإسكندرية الجميلة ، لا اعرف ولا اجد مبررا لماذا لا ينتبه متخذ القرار فى تلك المسلسلات ان هناك واجبا وطنيا لتسويق صورة جميلة لوطنهم، محببة دون الاخلال بالعمل الدرامى الذى يجب ان تكون له مواصفات معينة او حتى بالعمل التجارى ! فيمكن ان يصاحب هذا ذاك ! وأين تحويل القصص والروايات التى تكاد تلامس العالمية من روائيين عرب او مصرين لتحويلها الى أعمال فنيه ربحية وفيها ترويح وتحمل رسالة أيضا. المؤسف ان دائرة النقد التى صاحبت معظم تلك المسلسلات التى فى بعضها فقدت الحد الأدنى من التشويق، دائرة النقد كانت اما ضعيفة او مجاملة الى حد ملامسة النفاق. لا اريد هنا ان اقلل من جهد الممثلين، فقد صحبنا فى هذا الموسم قدرات تمثيلية مهمة بل وباهرة، الا ان كثيرين آخرين كرروا انفسهم، وتغيرت ملابسهم واسماؤهم فقط دون أى تغيير او تجويد على أدائهم. اصطلح المتخصصون على اعتبار هذا الفن من ( الاعمال الدرامية السينمائية والمسلسلة) على تسميته (الصناعة الابداعية)وهى صناعة إن أجيد إنتاجها يمكن ان تشكل دخلا للاقتصاد الوطنى ضخما وكبيرا، و لا بد من تأكيد ان هذه ( الصناعة) ليس لأنها مدرة على الاقتصاد الوطنى دخلا ماليا ، ولكن أيضا لأنها تقدم الوطن للآخر ( المواطن او غيره) بصورة لائقة ومشوقة، خذ مثلا الأفلام الامريكية التى تسرد بعض احداث الحرب العالمية الثانية، ففى كل مواجهة مع ( الالمان الأعداء) ينتصر الأمريكى ، ويتعامل مع الاحداث دائما بمثالية وترفع! ومن المعرف اليوم ان تدهور الاتحاد السوفيتي، كان احد أسبابه، صورة الحياة الامريكية التى عكست فى أفلام وصدرت لجماهير تلك البلاد! مما أوجد جوا من الزينة والانبهار مفقودا لدى المتلقى السوفيتي! الصناعة الإبداعية او القوة الناعمة هى التى تقود المجتمع الى تكوين الثروة و تساعد على التحديث ، بل تقود التغيير الاجتماعى برمته ، وكما تؤدى الى زيادة الدخل القومي. التساؤل المهم هنا هل نفتقد المبدعين فى الجيل العربى الذى يقدم لنا هذه الاعمال ؟ الإجابة المنطقة والعلمية سوف تكون بلا، لان الأجيال تضع مبدعيها، ام أن هناك انصرافا من المجتمع عن تتبع ونقد تلك الاعمال؟ كنت اشاهد بعض المسلسلات التى عرضت هذا الموسم وأقول لنفسى ماذا يريد مكون العمل ( الشركاء الاساسيون فيه) ان ينقل للمشاهد؟ هل هو نقد لنظام التعليم ام نقد للمؤسسات البيروقراطية ام نقد لمظاهر سلبية فى المجتمع ؟ لم اجد إجابة شافية، لانى لم اجد ذلك النقد المبطن ، خيل لى ان البعض لا يعرف ماذا سوف يقول أو يمثل فى المشهد التالى غير اجتهاد بائس لعبارات بائسة! المؤسف ان تاريخ الابداع خاصة فى مصر تاريخ غنى الا ان ذلك التاريخ لم يبن عليه، اصبح الاستسهال و ربما الاستهبال هو السائد، دون رسالة او معنى إيجابى يتركه العمل فى نفوس الناس ، رأيى ان معظم مسلسلات رمضان هذا العام سوف تنسى بسرعة ولن تترك أثرا، كما ترك فيلم اللص والكلاب او حتى مسرحية مدرسة المشاغبين للمبدع الراحل على سالم رحمه الله، ذلك هو الفرق بين الإبداع والسطحية!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف