من يرى القبح والإهمال المنتشر فى شوارعنا والذى أصبح يملأ مدننا يتصور أننا شعب لا يقدر الجمال ولا يعرف تاريخه الحضارى الذى خلدته الأعمال التراثية الجميلة، فقد ترك لنا أجدادنا جمالا لا يضاهيه جمال، سواء فى تاريخنا البعيد، أو حتى فى تاريخنا الحديث، فمعمار وسط القاهرة الذى لم يكمل تاريخه المائة عام لا يقل جمالا عن معمار معبد الكرنك أو حتشبسوت الذى بنى قبله بآلاف السنوات، ولوحات رائد الفن التشكيلى الحديث محمود سعيد لا تقل روعة عن رأس نفرتيتى أو تمثال شيخ البلد.
إن المصرى الأصيل مازال يقدر الفن والجمال ويحرص على الحفاظ على تراثه القديم، لذلك لم يكن غريبا هذا الكم من الرسائل والاتصالات التى تلقيتها من عدد كبير من القراء تعليقا على مقالى فى الأسبوع الماضى والذى طالبت فيه بحماية المتحف الزراعى المصرى من تلك المشروعات البائسة التى تعلن عنها الآن وزارة الزراعة استغلالا للمساحة المحيطة بالمتحف والبالغ حجمها ٣٠ فدانا فى عمل مشروعات تجارية وأماكن ترفيهية وأماكن للتسوق ومواقف سيارات، ضاربين عرض الحائط بالقيمة التاريخية لهذا المتحف الذى يعتبر أول متحف زراعى فى العالم، وللمساحة الخضراء المحيطة به.
لقد طالبت فى مقالى أن تبقى وزارة الزراعة على هذه المساحة خضراء ولا تحولها الى أبنية خرسانية قبيحة، وقد كانت فى الماضى الحديقة المحيطة بسراى الأميرة فاطمة ابنة الخديوى إسماعيل والتى تبرعت بها لتصبح متحفا يسجل تاريخ أقدم دولة زراعية فى العالم، واقترحت أن تقام بها على سبيل المثال حدائق لبعض النباتات المصرية التى قاربت على الانقراض، ومنها زهرة اللوتس المصرية الأصيلة والتى لم نعد نراها الآن فى حدائقنا التى تناقصت هى الأخرى حتى كادت تختفى بعد أن زحف عليها القبح العمرانى الذى نجد الحكومة الآن تتبناه بهذه المشروعات التى تتحدث عنها وزارة الزراعة، بدلا من أن تتصدى له وتصر على إبقاء المساحات الخضراء رئة تتنفس القاهرة من خلالها الهواء النقى بعد أن أصبحت حدائقها العامة تعد على أصابع اليدين.
ومن بين من سارعوا بالاتصال بى السيدة/ سامية زيتون التى تقوم مع مجموعة من زملائها بجهود عظيمة للحفاظ على حى المعادى من هذا الزحف القبيح الذى لم يترك لنا من تراث الأجداد والآباء شيئا، وقد أخبرتنى بأنه يوجد داخل نادى المعادى واحدة من حدائق اللوتس النادرة، كما أن إحدى الجمعيات الخاصة أقامت هى الأخرى بجوار النادى حديقة جميلة لتربية زهرة اللوتس المصرية، وأرسلت لى بالفعل صورا غاية فى الروعة من داخل تلك الحديقة تصور جمال وعظمة تلك الزهرة التى خلدها المصريون القدماء وجعلوا معابدهم المقدسة تقوم على الأعمدة التى تزين رؤوسها زهرة اللوتس فكانت هى التى تحمل المعبد على أوراقها. وقد حزنت أن علمت أن هذا المشروع أجنبى أقامته مجموعة من الأجانب المحبين لمصر وتاريخها العظيم، وتذكرت حديقة الورد الشهيرة التى يطل عليها المكتب البيضاوى بالجناح الغربى للبيت الأبيض فى واشنطن، والتى يظهر بها الرئيس الأمريكى وضيوفه فى المناسبات الخاصة، قد أقيمت عام ١٩٠٢ على طراز الحدائق الأمريكية فى القرن الثامن عشر بناء على اقتراح من زوجة الرئيس فرانكلين روزفلت، لكنها توسعت فى عهد الرئيس جون كيندى حيث أصبحت موقعا للأحداث المهمة التى يشهدها البيت الأبيض، وقد كان من بينها احتفال توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل فى ٢٦ مارس عام ١٩٧٩ والتى وقعها فى مؤتمر صحفى بحديقة الورد الرئيس أنور السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين فى حضور الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، فلماذا لا يكون عندنا حديقة للوتس فى بعض الأماكن الرسمية المهمة وتقام بها بعض المناسبات المميزة، وهكذا نستدعى أمام ضيوفنا تاريخنا المجيد من خلال ذلك الرمز الجميل الذى جسد رقى الحضارة المصرية القديمة؟ ولماذا لا تقيم وزارة الزراعة بحيرة جميلة فى حدائق المتحف الزراعى تنمو فيها تلك الزهرة الرقيقة فيستمتع بها المواطنون فى أثناء زيارتهم للمتحف؟
إن المتحف الزراعى كما أوضحت فى مقالى سالف الذكر هو فى الحقيقة مجمع متحفى متكامل يتكون من سبعة متاحف كل منها له مبناه الخاص داخل حدائق المتحف، وقد أقيمت المبانى السبعة على طراز «الآرديكو» الذى كان سائدا فى بداية القرن الماضي. وفى اتصال هاتفى فى نفس يوم نشر المقال أخبرتنى السيدة/ شيرويت شافعى خبيرة الفنون التشكيلية المصرية بأن المبنى الذى يحوى الأعمال الفنية التى تصور المشهد الزراعى المصرى هو فى رأيها من أجمل المتاحف قاطبة، وأن به أعمالا فنية نادرة لعدد من الفنانين العالميين بالإضافة لبعض رواد الفن التشكيلى المصرى الحديث مثل محمود سعيد وراغب عياد وغيرهما، وهى تصور حصاد القطن وزراعة القصب وحياة الفلاحين ومشاهد الريف المصري، وقد حضرت فى دبى منذ نحو شهرين أحد مزادات صالة كريستى العالمية بيعت فيها لوحات لمحمود سعيد وصلت قيمتها الى الملايين وليس الآلاف، وحسبما أذكر كانت هناك فى متحف المقتنيات التابع للمتحف الزراعى ثلاث لوحات لمحمود سعيد رفعت الآن من مكانها فى الدور العلوى بسبب أعمال الترميم التى تجرى فى المبني، لكنى لا أعرف كيف تم حفظها؟ إن هناك طرقا خاصة لتخزين اللوحات الزيتية، وإلا تشققت إذا كانت الحرارة شديدة، وارتخت إذا كان الجو رطبا، فهل تمت الاستعانة بخبراء وزارة الثقافة الذين يقومون بمثل هذا العمل فى متاحف الوزارة؟ لا أدري. وفى هذا الإطار فقد استنكر المجلس الدولى للمتاحف من خلال لجنته الوطنية الأخبار المتداولة حول مشروع وزارة الزراعة تحويل الحدائق والمساحات الخضراء المحيطة بالمتحف الزراعى بالدقى الى كافيتريات ومحال تجارية ومواقف لانتظار السيارات، وذكر الدكتور خالد عزب رئيس اللجنة الوطنية أن المادة ٤٥ من الدستور تجرم التعدى على المساحات الخضراء، خاصة أن تلك المساحات هى حدائق تراثية، وأشاد بقبول الرئيس السيسى رئاسة مجلس أمناء المتحف المصرى الكبير مما يدل على اهتمام الدولة بالمتاحف، وهو ما يناقض ما تقوم به وزارة الزراعة فى هذا الصدد، وطالب بضرورة نقل تبعية المتحف الزراعى المصرى الى وزارة الآثار أو وزارة الثقافة أو تحويله الى مؤسسة خاصة تدار من خلال مجلس أمناء. يا سادة كفانا عبثا بتراثنا الحضارى وكفانا تدميرا لكل ما هو جميل فى حياتنا...أو كان جميلا. ألا تعرفون أن نشر القبح يساعد على نشر الإرهاب، وأن نشر الجمال يحول دون التعصب والتطرف والإرهاب؟ إن الإنسان المتشبع بحب الجمال والمدرك لتاريخه العريق لا يفجر القنابل ولا يقتل الأبرياء؟!