الوطن
د. محمود خليل
معاوية.. أمير الدهاء (2)
وضوح الهدف والوعى بالقدرات الذاتية مقدمتان أساسيتان لنجاح أى شخصية فيما تدير، فإذا أضفنا إليهما القدرة على المواءمة السياسية، يتحول النجاح إلى قدرة غير عادية على السيطرة على معطيات المشهد، كذلك كان «معاوية»، فهو لم يكن مجرد شخص يرى أهدافه بحدة بصر تتشابه مع حدة بصر النسر، أو يعى قدراته على تحقيق هذه الأهداف بعمق وحكمة شيخ بصّرته تجارب الحياة، بل كان يتمتع بالإضافة إلى ذلك بقدرة غير عادية على المواءمة السياسية. تأمل هذه المقالة وانظر كيف كان يصف «معاوية» نفسه: «إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، ولا أضع سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين الناس شعرةً ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها»، يا لحَكمة الرجل!

هذه الكلمات تقدم لنا حاكماً مرتكزاً، يثق فى نفسه كل الثقة، ويعرف كيف يستخدم أدواته بشكل يحقق أهدافه، ويفهم أن الأداة التى تناسب شخصاً أو موقفاً قد لا تناسب فيما سواهما. السيف والسوط والكلمة يجب أن تستخدم بحكمة، والأفضل أن يلجأ مَن يسوس أمر الناس إلى الخيار الأقل كلفةً والأهون وطأةً، هذا اللجوء لا يعبر عن ضعف وإنما يعبر عما يطلق عليه «المواءمة السياسية»، وهى لمحة فى الأداء الحكومى تؤدى إلى تمكين صاحبها من السيطرة على الأمور، وقد بلغ «معاوية» من العبقرية مبلغها حين أطلق تلك العبارة التى صارت مضرب الأمثال، عبارة «شعرة معاوية»، كذلك السياسى لا يخسر أحداً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يقطع الشعرة التى تصل بينه وبين مَن حوله، لأنه إذا فعل فسوف يخسر الناس، وتلك هى الخسارة العظمى، كما كان يرى «معاوية».

وصل «معاوية» إلى الحكم متذرعاً بقميص «عثمان»، فقد كان يسير وأنصاره فى شوارع وأسواق الشام حاملاً قميص الخليفة الذى اغتيل وقد لطّخته الدماء، ويطالب بالثأر من قتلته، لكنّ أموراً كثيرة اختلفت عندما وصل إلى سُدة الخلافة بعد اغتيال على بن أبى طالب وتنازل «الحسن» عن الخلافة ومبايعته لـ«معاوية». اسمع هذه القصة التى يحكيها «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»، وفيها أن «معاوية» جاء المدينة فى أول حجة حجها بعد أن اجتمع الناس عليه، فقدم دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال «معاوية» لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم، فإن لى حاجة فى هذه الدار، فانصرفوا فدخل، فسكّن عائشة، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخى، إن الناس أعطونا سلطاناً فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا، وباعونا هذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا شحّوا على حقهم، ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعتهم، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندرى أتكون لنا الدائرة أم علينا؟، وأن تكونى ابنة عثمان أمير المؤمنين خير من أن تكونى أمة من إماء المسلمين. العبارة الأخيرة فى هذا الحوار الذى دار بين ابنة «عثمان» و«معاوية» تعكس المعنى العميق للمواءمة السياسية التى كان يؤمن بها «معاوية».

فالمواءمة كانت تقتضى نسيان دم «عثمان»، إذ كان ذلك هو الأصلح للجميع، بمن فى ذلك ابنة «عثمان» نفسه، فخير لها أن تكون ابنة الخليفة الأسبق من أن تكون أَمةً من إماء المسلمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف