منذ أن تنحى الرئيس مبارك ونحن نعيش حالة من التربص والتوتر والتخوين والتخويف والإقصاء والفرز، وما زلنا نرى مستقبلنا من خلال نافذة الأنظمة السابقة، نسعى إلى الأشخاص، ونفكر فى الأشخاص، ونروج لأشخاص، ونستبعد أشخاصًا، ونرشح أشخاصًا، وننافق أشخاصًا، وندفع بأشخاص، ظنا منا أن فى تولى هذا أو ذاك سوف تنجو السفينة نحو الدولة المدنية الحديثة، وغاب عنا أن صلاة الجماعة أفضل بكثير من صلاة الفذ، وأن الفرد البطل الأوحد يسكن فقط فى القصص والحواديت، وأن الدول تقام وتدار بالمؤسسات وليس بالأبطال أو بالأنبياء.
أظن أننا نواجه عقبة ليس من السهل تخطيها، وصعوبتها فى أنها ترتبط بآلية تفكيرنا، فى كيفية رؤيتنا للحياة، المشكلة ببساطة تتلخص فى أننا نرى العالم ونفكر فيه، من خلال الأشخاص وليس من خلال الأفكار، نظن أن خلاصنا وحريتنا ورخاءنا وسعادتنا فى اختيار الشخص المناسب، معه وفى ظله نعيش حياة جميلة وسعيدة، لهذا غالبًا، ودائما ما نبحث فى هذا الشخص عن قدرات المخلص، البطل، النبى، المقدس، وهو ما دفعنا على مر التاريخ نعلى من شأن الأنبياء، والحكام، والأفراد وننسب لهم ما يتجاوز بشريتهم، ارتبطنا بعبد الناصر فظهرت الناصرية، والساداتية، والأحمدية، والشاذلية، والحنفية، والشافعية، والأيوبية، والماركسية، والوجودية، وعرفنا نجم النجوم، وسيدة الشاشة، وسيدة الغناء، ومطرب الجيل، والكاتب المتفرد، والحزب الواحد، والشاعر الجبار، وكرسنا سنوات صبانا وشبابنا وشيخوختنا للحياة تحت مظلتهم، وأصبح مجرد التمرد أو التفكير فى الخروج عن عبادة الفرد جريمة تهتز لها السماء، فالخروج على الحاكم أصبح حرام شرعا، وعدم تبنى الماركسية أو الناصرية جهل، وتبنى المذهب الشيعى كفر، وانتقاد الحاكم خيانة، وتبنى بعض الأفكار الغربية عمالة، واستسلمنا للقهر، والفساد، والديكتاتورية، والمهانة، والتخلف، وعبادة الأشخاص، وأفكار المنافقين والمنتفعين.
تعلمت من والدى رحمة الله عليه أن أترك بينى وبين ما أسمعه أو أراه أو أقرأه مسافة، قال لى: ستجعلك ترى بوضوح، سترى ما لا يمكن أن تراه وأنت داخل النص أو الصورة، من يجلس فى مقعد المتفرج يرى العرض من جميع جوانبه، قد تعجبك بعض الأفكار أو الرؤى أو الأيديولوجيات، لكن عليك أن لا تحول الإعجاب إلى عقيدة مثل الدجمة، لا تجعل ما يعجبك يغفلك عما ترفضه، وما لا يتوافق ورؤيتك، الدهماء وحدهم الذين يقعون فى أسر الأشخاص، يضعون القيد حول أعناقهم، تستهوهم بعض الأفكار والمقولات ويتركون عقولهم لمن يديرها، أغلب من يستسلمون للأفكار والشخصيات سرعان ما يتحولون من فكرة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، والأغبياء منهم الذين يظلون على قيد بعينه، الله وحده الذى يجب أن تسلم له وتستسلم له وتؤمن بما أقره، الفقهاء وجامعو السنة شخصيات اجتهدت، لك أن تقبل وترفض ما اجتهدوا فيه، وليس لك أن تجتهد فيما أقره الله وأمر به، الله هو الحقيقة الوحيدة الثابتة التى لا تتغير، إياك أن تنساه أو تأخذ من صفاته وتمنحها لنبى أو حاكم أو سياسى أو مفكر أو كاتب، إياك أن تعبد الأشخاص، ميز دائمًا بين الإعجاب والإيمان.