الأهرام
د. نصر محمد عارف
ماذا تريد حكومة قطر…؟
نحن أمة يعْصَرَها التاريخ بأعاصيره وأنوائه فيخرج أسوأ ما فيها، ثم يعتصرها فلا يجد فيها ما يسد الظمأ، أو يروى العطشان، تاريخنا فى معظمه حلقات دائرية تتكرر، ولا نملك الفكاك منها، لأننا نعيش فى الماضى غالبا. هكذا لخص حاضرنا الفيلسوف الهندى محمد إقبال المتوفى 1938، فى شكواه إلى السماء قائلا: «أمسيت فى الماضى أعيش كأنما قطع الزمان طريق أمسى عن غدي»، نحن نعيش فى الماضى البعيد والقريب، وكأنما تعمد الزمان بقسوته وشراسته أن يمنعنا من أن نسلك طريق المستقبل.

بعيداً عن حالة الانحدار الأخلاقى التى يشهدها العالم العربي، والتى لم يشفع فيها شهر الصوم، فيلجم الألسنة التى ولغت فى القاذورات طوال تاريخها، وصارت ترتزق من تجارة قمامة الكلمات، وتحجز مواقعها المتقدمة فى المشهد السياسى والإعلامى باستثمار رصيدها الضخم من قلة الأدب والبذاءة، ومع ضخ المزيد من البذاءات والشتائم يتضخم رصيدها فى البنوك، وتحقق أحلام نفوس وضيعة، جاءت من بيئات منحطة، عقدتها وضاعة المنبت وسوء التربية. بعيداً عن هذه الحالة المأساوية التى لا تبشر بخير فى العالم العربى فى قادم الأيام، لأن المنخرطين فى هذه المأساة من شباب ينتمون إلى حركات إسلامية تتقرب إلى الله بالبذاءة وسوء الخلق والتنابذ بالألقاب، وتجاهد فى سبيله بالكذب والافتراء، بعيداً عن هذه الحالة هناك سؤال مشروع…ماذا تريد حكومة قطر؟ لا يستطيع أحد أن يعلم الضمائر، ولكن لسنا فى وارد تحليل نوايا شخص معين، وإنما فى رؤية دولة وحكومة وعائلة حاكمة يمكن معرفة كوامنها، وتوجهاتها من تحليل أنماط سلوكياتها القولية والفعلية، وبناء على هذا التتبع لسلوكيات العائلة الحاكمة فى قطر يمكن أن نخرج بالآتي:أولا: التاريخ حاضر بقسوة فى الحالة القطرية، فآل ثانى من قبيلة تميم، بينما آل سعود من بنى حنيفة، وآل خليفة وآل الصباح من بنى عتبة والثلاثة أبناء عمومة من عنزة، ومن بين هذه العوائل الأربع نلحظ حرص آل ثانى على إحياء النزعة القبلية والفخر بالنسب التميمي، واسترجاع كل مآثر التاريخ، فقد حرص الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى على الحفاظ على النسب القبلي، والاجتماع ببطون القبيلة سواء من قطر أو من السعودية، هذا الحرص يقول إن التاريخ حاضر، وإن مآسيه ماثلة للعيان، وإننا قد نكون اليوم فى موقف يتشابه سياسيا، وليس دينيا مع موقف أحد بطون قبيلة تميم بقيادة مسيلمة الكذَّاب الذى ادعى النبوة رفضاً لفكرة الخضوع لحاكم قرشي، وكان أسهل عليه ترك الدين جملة وتفصيلا حتى يحافظ على مجد القبيلة والنسب، فهل يمكن تفسير سلوكيات العائلة الحاكمة تجاه مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتمردها الدائم على الشقيقة الكبرى السعودية بنفس نظرية مسيلمة الكذاب…؟ سؤال مشروع يستحق البحث والتفكير.

ثانياً: هناك رؤية تاريخية إمبراطوريـة شــكلت وعـى القيـادة القطريـة عـَبَر عنها كثيـراً الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثانى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ففى إحدى مكالماته المسربة تكلم عن مستقبل جزيرة العرب، وأن مصير دولها التفكيك، ولن تكون هناك دولة من دولها متماسكة قوية إلا قطر، ولذلك فهى المرشحة لإعادة تشكيل جزيرة العرب تحت قيادتها، وتأسيس كيان جديد أكثر ديمقراطية، واستغرب من الاحتجاج بصغر حجم قطر مساحة وسكاناً، وأن ذلك قد يكون عائقاً أمام حلمها فى المجد التليد، وكانت حجته أن بريطانيا وهى من أصغر دول أوروبا مساحة وسكاناً حكمت العالم، وكانت لها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وضرب مثلا بالهند وهى شبه قارة مساحة وسكاناً، وخضعت لبريطانيا…فلماذا لا يكون لقطر نفس حلم بريطانيا وتكون لها إمبراطورية تليق بها وبنجاحها…وهنا يثور السؤال: هل كل ما قامت به قطر فى الدول العربية القريبة منها والبعيدة عنها من تدخلات وتخريب وتفكيك وتفجير صراعات يدخل فى إطار هذا المشروع الحلم؟

ثالثاً: يتردد دائما على ألسنة حكام قطر جملة ثابتة لا تتغير: قطر دعمت اختيار الشعوب، يقولونها عندما يوجه إليهم انتقاد بالتدخل فى الشئون الداخلية لمصر وسورية وتونس وليبيا وغيرها بعد الربيع العربى المشئوم… قطر دعمت اختيار الشعوب؛ عبارة تعبر عن جوهر السياسة القطرية ورؤيتها لكل مفاهيم العلاقات الدولية والقانون الدولي، ومفاهيم السيادة والشرعية وكل متعلقات العلوم السياسية…قطر دعمت اختيار االشعوب، عبارة كان يجب أن يقف عندها علماء السياسة وباحثوها ويتساءلون…ما هى قطر؟، هل هى دولة؟ أم هى الإمبراطورية الرومانية المقدسة؟ أم هى الأمم المتحدة؟…الحقيقة أنها فوق ذلك كله، ولم يرد لها مثل أو مثيل فى تاريخ البشرية. الحقيقة أن عبارة قطر دعمت اختيار الشعوب تلخص كل المسألة، فقد تماهت قطر مع قناة الجزيرة، وصار الاثنان شيئاً واحداً، وعاش حكام قطر حلم قناة الجزيرة الفضائية، واختراقها لكل الحواجز، ووصولها إلى الشعوب مباشرة رغماً عن حكامهم فى عصر الفضاءات المفتوحة، فظن حكام قطر أنهم دولة فضائية تستطيع أن تصل إلى الشعوب رغما عن حكامهم، وتحركهم فى الاتجاه الذى تريد بعيداً عن حكامهم، وترسخ هذا الفهم فى إدراك صانع القرار القطرى فتصرف طبقاً لهذا، وعاش الحلم وأصبح منزعجاً حين يعترض الآخرون على سلوكياته، وحين تنزعج منه الدول، لأنه نسى أنه دولة من المفترض أن يتعامل مع الدول وليس الشعوب، وأنه حكومة تنحصر علاقاته فى الحكومات وليس الجماعات، وأن قطر ليست قناة الجزيرة…وهنا ينبغى أن يكون الحوار مع قطر فى كلمة واحدة أنكم دولة لها كل الاحترام، ولستم قناة فضائية يتحكم فيها شذاذ الآفاق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف