التحرير
د. نصر محمد عارف
أردوغان.. هذريان.. هذربان
يسمى الرجلُ هِذْرِيانٌ إِذا كان كلامُهُ كثيرًا غَثًّا، ويسمى هَذْرِبانٌ إذا خلط في كلامه بين الجد والهزل، وأكثَرَ من الهذيان وغير المعقول، ولم تزل مجتمعات الجزيرة العربية تطلق على من يكثر في الكلام، ويكيل الاتهام والملام، ويتصدر المشاهد بمواقف الأبطال، وهو في حقيقته من السفهاء والجهَّال، من يقوم بهذا الهذيان يسمونه هذربان. ومنذ أن سقط حكم الإخوان في كثير من البلدان، وضاع الأمل في ضم مصر إلى سلطنة بني عثمان، من الترك والشركس والألبان، وحدث نفس الأمر في ليبيا، وتونس وسورية، وأصبح حلم السلطان؛ صاحب القصر المنيف شامخ البنيان؛ في خبر كان، فلم يعد في الإمكان إعادة الخلافة العثمانية، بعد قرن من سقوطها على يد تركيا الطورانية، وسقطت خطة العثمانيين الجدد، ولم يعد ينقذهم لا ذكر ولا دوران ولا مدد، فقد ضاع الاستثمار في "داعش" و"النصرة" و"فتح الشام"، بعد أن فتح أردوغان لهم الحدود، وكان وسيطا في إمدادهم بالمال والعتاد وتهريب النفط والأصنام، وتحولت سورية من حلم إلى كابوس، ورأى العالم وجه أردوغان الحزين العبوس، بعد أن كان يرقص كالطاووس، كالعريس يزف إلى أجمل عروس. تكسرت على صخور الفراعين كل أحلام العثمانيين، فدخل أردوغان في مرحلة من الهذيان، فصار هذريان هذربان، يرفع يدًا مقطوعة الأصبع، ويتقصع في مشيته ويتمرقع، ليغيظ جيش مصر المحروسة بقوة الله الغالب الغلاب، ويسب رئيسها ليل نهار، ويصفه بقائد الانقلاب، ومصر تنظر له من علٍ ولا تعره أي اهتمام، وهو يتمادى مع جماعته في غيبوبة الأوهام. ثم جاء موقف الحزم والجسارة، من حكومة قناة الجزيرة والإمارة، وهو في جوهره موقف بين أهل الجزيرة، أصحاب تقاليد عميقة غزيرة، تعرف حدود الخصام، وتعرف كيف تعيد الوئام، والذكي من لا يدخل بينهم، ويطمع في الصيد إذا تعكر ماؤهم، فهم أهل بحر غوَّاصون، يرون في عكارة الماء، مثلما يبصرون في حالة الصفاء، ولكن أردوغان الهذربان الهذريان، تعجل بصورة لا تليق إلا بالصبيان، وأرسل جيشه إلى قطر، عله يشعل النيران فيزداد الخطر، وهنا يقفز بجيشه على الغنيمة، فيحقق ما فشل في الوصول إليه بالسياسة والعزيمة، فقد غلبت عليه الانتهازية وتصيد الفرص، فلم يعرف البغل من الحمار من الفرس، وتحول فجأة إلى موقع صاحب الباب العالي، الذي يصدر الأوامر للولاة والأغوات والموالي، فوجه كلامه بصورة آمرة إلى ابن سعود، فلم يعره اهتمامًا وكان بابه موصودًا، ثم أرسل وزير خارجيته يطلب قاعدة عسكرية في نجد، فجاءه أقسى رد، ثم انقلب يهذي بصوت مرعوب ولكنه عنيد، يأمر بإنهاء أزمة قطر قبل العيد، فلم يسمع له أحد لا في القديم ولا في الجديد.

بالأمس كان الهذربان يجلس في الرياض في المقعد العتيد، في اجتماع مجلس التعاون كحليف كبير في مواجهة مشروع الفرس الجديد، واليوم أردوغان حليف لإيران في مواجهة من كان لهم بالأمس من الأصدقاء والخلان، هكذا فعل مع صبيان سورية، المتسولين حول قصره في إسطنبول، وأنقرة وقونية، وتخلى عنهم من أجل تصدير الطماطم والبصل إلى روسية، وباعهم في الأستانا لقيصر روسيا، واليوم يبيع أصدقاءه في بلاد الحرمين مثلما باع مرتين أهل سوريا. الهذربان الهذريان يتشدق ليل نهار بالقيم الإسلامية، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وصبيانه والمراهقون من أتباعه في بلاد العربان، يرونه خليفة الزمان، ومبعوث العناية الإلهية لإعادة أمجاد بني عثمان، وهو في الحقيقة غير ذلك، بل إنه على العكس كذلك، فهو ديكتاتور مجرم، دماء السوريين على يديه، وعلى لسانه وتسيل من فيه، هو المجرم الأول في تدمير سورية بعد أن كان صديقا لبشار، وفتح الحدود وألغى التأشيرة والقيود، ثم عندما لاحت في الأفق ثورة الإخوان، انقلب وتحول إلى العداوة والعدوان. هو في حقيقته ديكتاتور، شرس عنيف يحطم مثل الثور، اصطنع محاولة انقلاب فاشلة، لينفرد بالسلطة الغاشمة، ويؤسس لحكمه مدى الحياة، ويتخلص من الخصوم والأعداء، فسجن عشرات الألوف، ودمر حياة مئات الألوف، ولم يغمض له جفن، وأصبح الاعتقال والطرد من الوظيفة مهارة وفنا، كل يوم يدمر حياة العشرات، حتى بعد أن مر على محاولة الانقلاب والشهور العشرات، وفي ذات الوقت يعظ ليل نهار بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويقدم نفسه على أنه حامل قيم الإسلام، وحامي كرامة الإنسان، إنه حقا هذريان هذربان. والآن سقط الهذريان الهذربان في مياه الخليج العربي، فقد حركته انتهازيته وعقله الميكيافيللي الغربي، فراهن على الاستفادة من الأزمة في جانبها الاقتصادي، وحقق بعض المكاسب الفورية، وكانت خسائر تركيا جوهرية، فقد تحولت إلى طرف مراوغ غير موثوق فيه، لن تأمنه دول الخليج، ولن تجاريه، وستعامله معاملة الخصم أو الشقيق اللدود، وسيخسر مصر والسعودية والإمارات مقابل كسب محدود، كسَبَ في التجارة لأنه في ذلك شديد المهارة، وخسر السياسة الإستراتيجية والكياسة، وأصبح حقا هذريان، وفي لغة العرب المعاصرين هذربان.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف