انتهت معركة وزير العدل مع الزبالين وعادت الدنيا إلي ما كانت عليه.. استقال الوزير أو أقيل وهدأت الدنيا.. ومن المؤكد أن الزبالين سوف يتذكرون هذه الفترة بكل فخر.. خصوصا بعد حملة النفاق الاجتماعي المكشوف التي مورست معهم علي كل المستويات حتي بات الواحد منهم ينشد: لو لم أكن زبالا لتمنيت أن أكون زبالا.. لكن لم يتغير شيء فينا ولا في الزبال ولا فيما حولنا.
مازالت النظرة العنصرية تتحكم فينا.. ومازال الزبال في موقعه لن يغادره.. وابن الزبال لن يدخل القضاء حتي يلج الجمل في سم الخياط.. ولا ابن الفلاح سيدخل القضاء أو الشرطة أو الخارجية. ولا ابن السباك والميكانيكي والبواب والسائق وما شابههم حتي لو كانوا هم الأوائل الذين حازوا أعلي الدرجات.. وذلك لأن مجتمعنا مازال محكوما بنظرته العنصرية الإقصائية.. ويبدو أن أمامنا عقودا طويلة حتي نتخلص من هذه الآفة اللعينة. لقد ذهب وزير وجاء وزير.. وقد تذهب الحكومة وتأتي حكومة أخري.. لكن سيظل توريث القضاء قائما.. ليس بحكم الدستور ولا بحكم القانون.. وإنما بحكم قوة السلطة القاهرة التي تملك القرار وتملك تنفيذه علي أرض الواقع.. ولو ملأنا صحائف الدنيا كلاما جميلا عن المساواة وحق المواطنة وتكافؤ الفرص لما تغير شيء لأن الواقع أقوي.
الواقع يكرس الطبقية ويتباهي بالتوريث ويتحدي النصوص الدستورية والقانونية علنا دون وجل.. الواقع يقاوم التغيير ويدافع عن امتيازات تحققت في زمن الاستبداد والظلم ويعمل علي زيادة الفوارق بين الطبقات ليكون هناك دائما سادة وعبيد.
لقد مرت الأيام الماضية تحمل مشاعر جميلة تجاه الزبالين.. الكل يغازلهم ويلاطفهم ويعترف بفضلهم ويؤكد حق أولادهم في حياة طبيعية وفي مجتمع سوي دون تمييز.. ثم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.. وعدنا من الأحلام إلي أرض الواقع فلم نجد شيئا تغير فينا ولا في الزبال.. بالعكس ربما يكون الزبال قد خسر الوزير الطيب الواضح الصادق مع نفسه الذي استقال.
وضاعت في خضم الكلام العاطفي فرصة أخري كان يمكن انتهازها لتغيير واقعنا السييء ولو تدريجيا وذلك عن طريق إقرار حقوق الزبالين والوفاء بها حتي تتغير حياتهم إلي الأحسن.. ويصبح من الطبيعي ومن الملائم أن يدخل أبناؤهم سلك القضاء والشرطة والداخلية.
بعض إخواننا الطبقيين كان اعتراضه علي دخول ابن الزبال إلي القضاء قائما علي اعتبار أن الزبال "شحات" يمد يده للناس.. ومن ثم فمن غير الملائم أن يسمح لابنه الذي تربي علي "الشحاتة" بأن يصبح قاضيا.. وإذا اعتبرنا أن هذا المنطق فيه شيء من الصواب فالخطأ ليس خطأ الزبال.. وإنما خطأ من أحوجه إلي أن يمد يده للناس ويتحول إلي "شحات".. الرجل يؤدي عملا وطنيا مهما لا يمكن الاستغناء عنه.. ومثله في أوروبا والدول المتقدمة لا يقل قدرا ومكانة عن الوزراء وما فوقهم وما دونهم.. لأنهم يحصلون علي أجر يحفظ كرامتهم ويكفي معيشتهم.. لكننا هنا نمارس أعتي أنواع الظلم مع الزبال ولا نعطيه حقه ثم نعايره بأنه يمد يده للآخرين ومن ثم لا يحق لابنه أن يتطلع إلي أعلي حتي ولو كان متفوقا علي أبناء الأكابر.
كان يجب أن تنتقل هوجة نفاق الزبالين إلي عمل إيجابي يقر حقوقهم ويرفع أجورهم ويوفر لهم المسكن الملائم والرعاية الصحية الكاملة والتأمين علي حياتهم ضد غوائل الزمن وتوفير التعليم المتكافئ لأولادهم ومنع أي صور للتهكم عليهم والانتقاص من قدرهم في الإعلام والأعمال الدرامية والاهتمام بمظهرهم العام وتوعية الجمهور بضرورة احترامهم والتعامل معهم بإنسانية وتحضر.. كل هذه الخطوات كان ينبغي أن نفكر فيها ونعمل من أجلها قبل الكلام الكبير عن تعيين ابن الزبال في سلك القضاء.
لدي يقين بأن الزبالين سوف يحصلون علي حقوقهم كاملة وسوف تعتدل مصر في مسيرتها تجاههم في يوم قادم.. يراه البعض بعيدا ونراه قريبا إن شاء الله.