الأهرام
صلاح سالم
مغزى العراقة وحدود الحداثة فى مصر
تقلبت مصر كثيرا على سطح التاريخ بين دولة إمبراطورية «فرعونية»، ومستعمرة محتلة فارسيا ويونانيا ورومانيا قبل الفتح العربي. وبعده لعبت مصر دور الإمارة الكبرى والولاية المكتفية، قبل أن تتمرغ فى وحل «السلطة الرعوية» مع الانهيار العباسى والاجتياح التتري، وهو المعادل العربى لنموذج الإقطاع الأوروبي. وفى ظله تقوم نخبة غريبة عن المجتمع القاعدى بمهمة الدفاع عنه عسكرية، مقابل امتلاك السلطة السياسية والموارد الاقتصادية، وهو ما قام به العنصر التركى منذ العصر العباسى الثاني، واستمر فى العصرين المملوكى والعثماني، وصولا إلى السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية.

مع محمد على باشا، انتقلت مصر من العصور الوسطى «الرعوية» إلى فضاء العصر الحديث على أصعدة التعليم والزراعة والتصنيع العسكري. ومن ثم استعادت الوظيفة الأمنية والسياسية خصوصا عندما بدأ محمد على فى تجنيد «الفلاحين» السودانيين ثم المصريين غير أن المشروع العلوى عانى انكسارا حادا أمام الضغط الأوروبى بتوقيع معاهدة لندن عام 1840م التى قلصت الجيش وحاصرت الحيوية المصرية دون ممانعة كبيرة من المجتمع القاعدى الذى لم تصل إليه عوائد الإصلاح فلم يجد لديه من الدوافع، ولا القدرات ما يمكنه من المقاومة، فلم تكن قد تشكلت كتلة تاريخية حديثة ذات قاعدة مجتمعية، ورؤية ثقافية، وأنماط تنظيمية، وطرائق فى الحياة تميزها وتكفل لها نوعا من الاستمرارية تدفعها للقتال من أجل الحفاظ عليها مثلما فعلت الطبقة البرجوازية الأوروبية، أو حتى الطبقة الإصلاحية اليابانية فى العصر الميجى ما أبقى التاريخ المصرى قابلا للانقطاع، أى العودة إلى نقطة الصفر من جديد، من دون مراكمة لخبرات تاريخية، يمكن معها بناء الجديد على ما هو إيجابى من القديم. ففى عصرى عباس وسعيد خسر المجتمع المصرى جل إصلاحات محمد علي، خصوصا بعد عودة نظام الالتزام الذى جعل فلاحى مصر أسرى الإقطاع الرعوي، عبيدا لباشوات الأرض بدلا من المماليك فى العصر العثماني، أو «أفصال الإقطاع» فى التجربة الأوروبية، فى الوقت الذى حصل فيه ديليسبس من سعيد على امتياز حفر قناة السويس بشروط بالغة الإجحاف، وكأن من علامات انحطاط الدول أن يتهاون حكامها فى بيع أراضيها للمغامرين الأجانب أو الفاسدين من أبناء الوطن.

أما الخديو إسماعيل فمارس نزعة تحديثية فوقية، فعلى أرضية مجتمعية رعوية أقام مجلس شورى للنواب وكان ذلك أمرا رائدا. كما أقام دار أوبرا مصرية تعرض فنونا موسيقية كلاسيكية لم يكن بمصر من هو قادر على إنتاجها أو حتى تذوقها سوى النخبة الإقطاعية. كما انه بناها احتفالا بافتتاح القناة المنهوبة، على شرف إمبراطورة الدولة الناهبة والأكثر عبثا فتمثل فى تمويلها بقروض أجنبية عجزت الحكومة عن سدادها لتصبح ذريعة لاحتلال مصر بعد سنوات قلائل رغم ثورة عرابى الوطنية، التى سماها المصريون آنذاك «هوجة عرابي» متسائلين بمرارة: هل يستطيع المصريون «الفلاحون» أن يستعيدوا حضورهم السياسى والعسكرى فى التاريخ بعد طول قطيعة.. أن يبنوا الجيش ويخوضوا الحروب، وينتصروا فيها بفعل ذاتى منظم؟.

أفضت ثورة 1919 ودستور 1923م ذوا الإلهام الليبرالى إلى حركة تنوير ثقافى حاولت أن تطرح أسئلتها على الواقع المصرى بشكل جدي، ولكنها واجهت مشكلتين أساسيتين: أولاهما افتقارها للمكون العلمى التكنولوجى كقاعدة صارت هى الأهم فى البنية التاريخية للمجتمع الحديث. وثانيتهما واقع الاحتلال البريطانى الذى جعل الأفق السياسى لأسئلة التنوير هذه محدودا أو مسدودا ولذا اتخذت هذه الحركة طابعا فوقيا لم يمكنها من المساس بالجسد الاجتماعى المصري.

ومع ثورة يوليو 1952م، استوت الملامح النهائية للوطنية المصرية، وضمن المشروع الناصرى هبت روح تحديثية تمكنت من وأد كثير من سمات الثقافة الرعوية، وصاغت كتلة مصرية تاريخية، وطبقة وسطى عريضة، وإن كانت بيروقراطية غالبا ومحدودة المهارة نسبيا غير إن التوجه الساداتى نحو استعادة التيار الديني، والتخلى عن مشروع العدالة الاجتماعية، فكك المشروع الناصري، بينما كان حكم مبارك، على وجه التقريب استمرارا لحكم السادات، وإن بدرجة أكثر خفوتا.

فى هذا السياق يبرز بوضوح ملمح الانقطاع فى تاريخنا، رغم امتداده الطويل، بفعل طول فترات السيطرة الخارجية قديما، وغياب الديمقراطية السياسية ودولة المؤسسات حديثا، على نحو أفقدنا الشخصية السياسية رغم استمرارية الشخصية الجغرافية كليا، والشخصية الحضارة جزئيا. نعم استمرت مصر دولة منذ بدأ التاريخ المكتوب، لكن تم بالتدريج تخفيض مستوى حضورها من إمبراطورية عالمية إلى ولاية فإمارة فسلطنة حتى عادت دولة عادية. هنا يصبح التاريخ عبئا على الحاضر، والعراقة عائقا أمام الحداثة، لأن تقاليد النهضة التاريخية لم تستمر بل تقطعت حبائلها، ولم يبن زمن على زمن، فأكثر الفترات استقرارا وفعالية فى تاريخنا الحديث كانت ثلاثين عاما فى الحقبة الليبرالية، أو نحو عشرين عاما هى الأكثر فعالية من حكم محمد (1820ـ 1840)، تليهما الحقبة الناصرية الأكثر كثافة والأقصر عمرا (1956 ـ 1967). بينما مثل عصر مبارك فترة استقرار راكدا لا فعالا. وهكذا تصبح مصر، جوهريا، أقل عراقة من فرنسا الثورة (1789 ـ حتى الآن)، ومن الولايات المتحدة، بنت العالم الجديد، التى حصلت على استقلالها عن التاج البريطانى ثم وضعت دستورها وراكمت تطورها على الأقل منذ (1776 ـ حتى الآن). ما نود قوله أن العراقة الحقيقية تعنى استمرارية التقاليد الحية، والقيم الإيجابية، والفعالية الحضارية، وليست مجرد امتداد زمني، ينعكس فى آثار مهملة أو لغات ميتة، فبهذا المعنى تصبح العراقة عبئا علينا بقدر ما ينطوى الماضى على تقاليد عتيقة وأعراف بيروقراطية معوقة لحركة التقدم ومسارات النهوض.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف