زمان عندما درسنا علم الكلام فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، قيل لنا إن معبد الجهنى المتوفى قبل سنة 90 هجرية، هو أول من تكلم فى مشكلة القدر، فقد كان ينكر القضاء المحتوم، وكان يقول إن الأمر أنف، أى مستأنف، وأن الله عز وجل لا يعلم الأشياء قبل وجودها، ولم يقدرها قبل وقوعها ولا عند كتابتها، وأخذ غيلان الدمشقى (ت 106هـ) هذا الرأى عن معبد الجهنى، وتعلمنا أيامها أن هذا الرأى قيل للرد على خلفاء بنى أمية الذين كانوا يرتكبون المفاسد، والمظالم، والآثام تحت زعم أن الله هو الذى خلق أفعالهم، وقدرها، وأجبرهم على فعلها، فهى مكتوبة ومقدرة فى اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة.
منذ يومين كنت أقرأ فى كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير(ت 774هـ)، واستوقفتنى عبارة على قدر من الأهمية، ذكر فيها أن رجلا من النصارى يسمى «سوسن» هو أول من أنكر القدر، وأن معبدا أخذ عنه هذا الرأى، بالطبع المعلومة كانت بمثابة المفاجأة، لأنها تخالف ما عرفته منذ 37 سنة وحتى اليوم، بعد كل هذه السنوات يتضح أن رجلا واسمه «سوسن»، هو من أدخل فكرة إنكار القدر إلى الفكر الإسلامي.
ركنت ابن كثير وبدأت رحلة التحقق من فخامة «سوسن» أفندى، هل بالفعل هو صاحب الفكرة؟، وهل اسمه سوسن بالفعل أم أنه اسم أمه أو جدته؟، ما هى جنسيته، ثقافته، عمره؟، وكيف وأين ومتى التقى معبد الجهنى؟
بعد فترة من البحث استمرت ثلاثة أيام اكتشفت أن الموضوع لا يقف عند سوسن، بل عند أكثر من شخصية، وجميعها بحرف السين، سسوية، وسنسوية، وسيسويه، والأسورى، قمت بتصنيف المصادر حسب الأقدمية، المؤلفين، ثم الرواة، واتضح أن أقدم مؤلف ذكر شخصا غير معبد، هو عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 290 هجرية، وذلك فى كتابه «السنة»، وقد نقل الخبر عن مرحوم بن عبدالعزيز المتوفى سنة 188هـ، ومرحوم سمعها من والده، ونص الخبر يشير إلى أن الرجل اسم سسويه وليس سوسن، وأنهما تحدثا عن القدر معا فى زمن والده: «ولا أعلم أحدا يومئذ يتكلم في القدر غير معبد ورجل من الأساورة يقال له سسويه»، وقد جاء الخبر فى العديد من المصادر فيما بعد، وسسويه كتب فيها بالنون: «سنسويه»، برواية عمرو بن عون المتوفى 225هجرية، كما فى كتاب القدر للفريابى ت 301هـ، وفى كتاب «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» لللالكائى ت418ه، وكتب بالياء: «سيسوية» برواية عمرو بن عون فى كتاب الإبانة لابن بطة العكبرى ت387ه، وجاء باسم «سوسن» فى كتاب «الشريعة» للآجرى ت 360هـ، وكتاب الإبانة لابن بطة، وشرح الأصول لللالكائى، وجميعها برواية الأوزاعى المتوفى سنة 157 هجرية، ولو أخذنا بأقدم راو للخبر وليس بأقدم كتاب، تفوز رواية يونس بن عبيد المتوفى سنة 140هـ، فى كتاب الللالكائى ت 418هـ، ويصبح اسم صاحب فكرة إنكار القدر هو «سنسويه» وليس الأخ سوسن.