الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
تجديد الخطاب الدينى.. مسألة حياة أو موت؟!
في الاسبوع الماضي نشرت الصحف أن السيد رئيس الجمهورية أعلن أن تجديد الخطاب الديني مسألة حياة أو موت. وهي عبارة نحتاج لفهمها علي حقيقتها، لأنها عبارة سيارة تتردد كثيرا وتستخدم في مناسبات مختلفة بمعان لابد أن يختلف بعضها عن بعض.


حين نستخدم هذه العبارة في مسألة شخصية يختلف معناها عما لو استخدمناها في قضية عامة. أقول مثلا إن تحقيق هذه الخطوة بالنسبة لي أو بالنسبة لشخص أعرفه مسألة حياة أو موت. وتقول الحكومة ونقول معها إن ضمان حقنا في مياه النيل مسألة حياة أو موت.

ولأنها عبارة سيارة تتردد علي الألسنة فهي تستخدم كثيرا بمعناها المجازي الخطابي الذي نقصد به المبالغة. فالنجاح الذي يتحقق في إنجاز العمل ولو كان هذا العمل متواضعا يعتبر بالنسبة لبعضنا حياة مضافة. والفشل يساوي الموت. من هنا يجب أن نسأل أنفسنا عما نقصده حين نقول إن تجديد الخطاب الديني مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا. هل نقصد المبالغة والتهويل؟ أم نقول الحق ونقرر الواقع؟

ونحن نعرف أن الحديث عن تجديد الخطاب الديني ارتبط في هذه الأيام بالإرهاب الذي تشنه علينا وعلي غيرنا جماعات الإسلام السياسي ويسقط فيه الضحايا بالعشرات والمئات. من هنا يكون من حقنا أن نقول إن تجديد الخطاب الديني مسألة حياة أو موت. لأن تجديد الخطاب الديني يساعدنا في مواجهة الإرهابيين الذين يشنون علينا الحرب باسم الدين ويمكننا من القضاء علي هذا الخطر الذي يهدد حياتنا تهديدا فعليا أفرادا وجماعات.

لكن الترجمة الفكرية والعملية لهذه العبارات التي تتردد علي ألستنا لا تدل علي إدراك صحيح أو جاد للعلاقة التي تربط بين الإرهاب والخطاب الديني السائد.

لقد تعاملنا في بعض المراحل مع الإرهاب باعتباره تعبيرا عنيفا عن فهم معين للدين يستطيع أصحابه أن يعبروا عنه بالعمل السياسي بدلا من حمل السلاح. ونحن نتذكر ما قامت به أجهزة الأمن بالتعاون مع بعض الوسطاء من علماء الدين والمشتغلين به لإقناع الإرهابيين بأن يراجعوا أنفسهم في هذه المسألة ويتخلوا عن العنف ويعبروا عن أفكارهم كما يشاءون لكن بالطرق السلمية. وهذه هي الترجمة التي حولت عددا كبيرا من الإرهابيين الملطخة أيديهم بالدماء إلي زعماء سياسيين، وسمحت بالخروج السافر علي مواد الدستور وانتهاك أحكامه والزراية بمبادئه التي تحرم قيام الأحزاب الدينية التي قامت وتكاثرت ولم يتردد أعضاؤها في انتخاب رؤساء لها منهم بعض المطلوبين للعدالة الهاربين خارج البلاد. فما الذي نتج عن هذه المراجعة التي ألقي فيها الإرهابيون السلاح وتحولوا إلي أحزاب سياسية؟

لم ينتج عنها إلا أن الإرهاب أصبح فتاوي ودروسا وبيانات وشعارات بدلا من أن يكون قنابل وسيارات مفخخة ومسدسات وبنادق. فتاوي تكفر المثقفين وتحرم التعامل مع النصاري وتمنع الوقوف للنشيد الوطني. باختصار، المراجعة حولت العنف المادي إلي عنف فكري. جعلته أحزابا وخطبا منبرية وقنوات فضائية وتحريضات علنية تحولت بدورها إلي تفجيرات للكنائس، وهجمات علي رجال الشرطة والجيش، ومحاكمات للمثقفين والكتاب. وهكذا ننتقل مرة أخري من الإرهاب الفكري إلي الإرهاب المادي، عودا علي بدء. والسبب إننا لم ندرك حتي الآن أن الإرهاب الذي نواجهه ليس مجرد حوادث أو مغامرات أو انفعالات وإنما هو حركة سياسية وأهداف وشعارات وتربية وتعليم وتمويل وتنظيم. باختصار، الإرهاب ثقافة.

الإرهاب ثقافة راسخة محصنة بإيمان الإرهابيين بأن ما يقومون به فريضة دينية. فالمجتمعات الاسلامية الراهنة مجتمعات مرتدة عادت إلي الجاهلية فلابد من إعادتها إلي الاسلام كما يفهمونه هم وزعماؤهم. لابد من إحياء الخلافة، وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود، وإلغاء القوانين الوضعية، والتمييز بين المسلمين والذميين، والالتزام في الحياة الخاصة والحياة العامة بما قرره الدين من أحكام ومعاملات.

والإرهابيون لا يخترعون هذه الثقافة ولا يأتون بها من عندهم، وإنما ينظرون في الفقه الموروث فيجدونها ثابتة مقررة، وفي التاريخ الإسلامي علي امتداده فيرونه دليلا علي صحة ما يعتقدون،. ومن ثم تزداد ثقتهم في أنفسهم ويواصلون شن غاراتهم علينا وعلي العالم كله في انتظار النصر الذي وعدوا به في الدنيا أو الجنة التي وعدوا بها في الآخرة، فكيف واجهنا هذا الخطر؟ بأي وعي؟ وبأي سلاح؟

نحن حتي لا نري من الإرهاب إلا عنفه المادي، أما دوافعه الدينية والفكرية فنحن نتعامي ولا نناقشها، لأنها في نظر الكثيرين كما يمكن أن نتوقع حقائق أو ثوابت لا يجرأون علي رفضها أو التشكيك في صحتها. وقصاري جهدهم أن يربتوا علي أكتافنا كما يفعل الكبار مع الصغار وينصحون بالتسامح والوسطية وعدم اللجوء إلي العنف.

بل إن هناك من يعتقد أن مناقشة الخطاب الديني تمثل ما يسمونه ازدراء للأديان وتقع تحت طائلة القانون وتتسبب في اثارة المشاعر، وقد تدفع بعض المتدينين للعنف. فإذا أردنا أن نواجه هذا العنف فعلينا ألا نسمح لأحد بإثارته ولو تذرع بحرية التفكير والتعبير. فإذا كانت مناقشة الخطاب الديني الموروث تتعرض للمنع والمصادرة فكيف نجدد الخطاب الديني؟ وهل يتفق هذا المنع مع حاجتنا الملحة لتجديد الخطاب الديني وإدراكنا أن تجديد هذا الخطاب مسألة حياة أو موت؟

بل إن الموقف السلبي من تجديد الخطاب الديني تجاوز هذا الحد بكثير فلم يعد مجرد تأجيل لهذا المطلب الحيوي أو تجاهل له، وإنما أصبح حربا معلنة علي ما تحقق منه.

ونحن نعرف أن المطالبة بتجديد الخطاب الديني بدأت مع بداية نهضتنا منذ قرنين. ونعرف أننا حققنا الكثير من الأهداف التي انتقلنا بها من العصور الوسطي وخطابها الديني إلي العصور الحديثة وخطابها. الدولة الوطنية، والفصل بين الدين والسياسة، وحكم الدستور والديمقراطية، والقانون الوضعي، والمواطنة، وعدم التمييز بين المسلم وغير المسلم، وحرية التفكير والابداع والبحث العلمي، وتحرير المرأة.. هذه الإنجازات التي حققناها في نهضتنا الحديثة تراجعنا عنها في العقود الستة الأخيرة وعدنا أدراجنا إلي العصور الوسطي نصلي نارها ونطالب بتجديد الخطاب الديني؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف