بهاء جاهين
الفن.. بين محاكاة الحياة وإعادة صياغتها
فى الفن منذ نشأته نزعتان متناقضتان: المحاكاة والتجريد. فالرسوم على جدران الكهوف – حيث سكن الإنسان البدائى – تصوّر الحيوانات التى عاش الإنسان على صيدها فى مراحله الأولى قبل الزراعة؛ والجرار التى صنعها من الطين وأحرقها فى النار تحمل – فى نفس الوقت – نقوشاً زخرفية هى عبارة عن خطوط وأشكال هندسية مجردة: كالمربع والمثلث والمستطيل والمعين والدائرة أو أنصاف الدوائر. ومع تراكم الخبرات وتوارث المهارات ارتفعت قدرة الإنسان على المحاكاة فى فنونه البصرية حتى وصل إلى ذرى من الدقة شبه الفوتوغرافية فى قرون النهضة الأوروبية, خاصة فى النصف الثانى منها وحتى منتصف القرن التاسع عشر. ولكن اختراع التصوير الفوتوغرافى فى ثلاثينيات ذلك القرن رسم خطاً حاسماً فارقاً بين زمان المحاكاة متصاعدة القدرة, والتى وصلت بالواقعية إلى أعتاب الدقة الفوتوغرافية, وبين تاريخ الفن الحديث منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر وحتى الآن, والذى تخلى تدريجياً عن طموح محاكاة الحياة وصولاً إلى صورة المرآة, واستبدل بذلك الطموح, الذى انتزعته تكنولوجيا العلم باختراع الفوتوغرافيا, طموحا آخر هو إعادة صياغة الحياة. وكانت باريس عاصمة ذلك التطور, الذى بدأ بظهور المدرسة الانطباعية أو التأثيرية فى الفن التشكيلى – مع إدوار مانيه وكلود مونيه ورينوار – التى اهتمت بتأثير الضوء على ما يرسمه الفنان, ومعظمه فى الطبيعة أو فى الهواء الطلق, أكثر من التفاصيل الدقيقة التى كانت تشغل من سبقوهم من فنانين كانوا يهدفون إلى محاكاة أفقدها اختراع الفوتوغرافيا حلمها ومبررها الفنى, كالماء الذى يُبطل التيمم. ومع مرور الوقت ازدادت النزعة غير الواقعية أو ضد الواقعية فى الفن التشكيلىّ, فخرجت التكعيبية والسيريالية من عباءة التأثيرية فى القرن العشرين, وفى تطور مواز فى ألمانيا خرجت إلى الوجود المدرسة التعبيرية. كل هذه المدارس كانت تعكس خروجاً متنامياً عن الواقع ومحاكاته وصل فى بعض الأحيان إلى التجريد التام, وعاد بالفن إلى الجرة البدائية التى تركها الإنسان الأول مطمورة فى طبقات الأرض واكتشفها العلم, مع بقايا عظام وجماجم, فى حفرياته التى أراد بها قراءة تاريخ ما قبل اختراع الكتابة والتدوين. تلك الجِرار – كما أسلفنا – تحمل نقوشاً هندسية مجردة استوحاها فنان القرن العشرين فى لوحات حداثية هى عبارة عن خطوط وأشكال زخرفية أو تجريدية كانت قد انتقلت عبر قرون طويلة من متن الفن إلى هامشه, إلا فى الفن الإسلامىّ حيث ظلت تحتلّ المتن نتيجة تحريم محاكاة الجسد البشرى, وقبل نشوء الفن التشكيلىّ الحديث فى البلاد الإسلامية.
تطور مواز حدث فى فن المسرح مع اختراع السينما, التى بدأت صامتةً بحيث لم تطعن المسرح فى مقتل؛ لكنها حين نطقت جاءت طعنتها فى الصميم. وجد فنانو المسرح, من كتاب وممثلين وقائمين بالتجسيد البصرى من مخرجين وفنانى ديكور وإضاءة وملابس – وجدوا أنفسهم فى مأزق مشابه لما أحدثته الفوتوغرافيا فى عالم الفن التشكيلى قبلها بمائة عام: فالسينما الناطقة تملك من إمكانيات التجسيد الواقعىّ ما يفوق بمراحل إمكانيات المسرح. إذن فقد انتزعت السينما من المسرح قدرة المحاكاة الدقيقة للحياة؛ لم يعد المسرح يستطيع أن يفخر – كما قال عنه شكسبير فى القرن السادس عشر – أنه يحمل المرآة للحياة كى ترى فيه صورتها. ولهذا ألهمت غريزة حفظ النوع فنانى المسرح أن يستبدلوا بالواقعية مدارس فنية تطمح إلى إعادة صياغة الواقع بدلاً من محاكاته, وإلا سقطت الحاجة إلى وجود المسرح. فسقط الحائط الرابع الشفاف الذى كان يشاهد من خلاله جمهور المسرح نسخة شبه فوتوغرافية من حياة تدور فى حجرة ما من المفترض أنها موجودة فى الواقع. وحين أقول سقط الحائط أعنى سقوط نظرية الحائط الرابع الشفاف؛ بمعنى أنه لم يعد فنان المسرح يطمح إلى تقديم حجرة واقعية فى لعبة فنية تصالح فيها مع المشاهد على أنه يشاهد ما يحدث فى نسخة فوتوغرافية من الواقع, بافتراض أن الحائط سقط بينه وبين تلك الحجرة. فالسينما تأخذه إلى داخل تلك الحجرة دون الحاجة لافتراضات أو اتفاقات بينه وبين فنانى المسرح. ولهذا جنحت لعبة المسرح إلى تغيير قواعدها, فلم يعد الهدف هو تقديم الواقع بأقصى درجة من الدقة, لأن السينما صارت أقدر على ذلك؛ فنشأت مدراس فنية جديدة فى كتابة المسرح وإخراجه اتفقت كلها على الابتعاد عن محاكاة الواقع وعلى إعادة صياغته بطرق وأساليب مختلفة: من التعبيرية إلى المسرح الملحمى إلى مسرح العبث.. وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل فى المقالة القادمة بإذن الله.