أثيرت من جديد قضية الأحزاب الدينية في مصر بعد إحالة أوراق حزب البناء والتنمية إلى لجنة شؤون الأحزاب، مع احتمالات الحل، خاصة بعد أن تم اختيار طارق الزمر الهارب إلى تركيا على رئاسة الحزب في الانتخابات الأخيرة، والصادر ضده عدة أحكام قضائية غيابية في قضايا عدة، وكذلك محمد الإسلامبولي في هيئته العليا، وحزب البناء والتنمية ليس هو الحزب الديني الوحيد، ولكن هناك العديد من الأحزاب الدينية الأخرى أشهرها "النور"، وله 10 مقاعد في مجلس النواب الحالي، وحزب الوسط وحزب مصر القوية وحزب الوطن وغيرها من الأحزاب، وهذا بعد حل حزب الحرية والعدالة وحزب الاستقلال في أعقاب العنف الذي تلا وقف الدستور وحل مجلس الشورى وعزل محمد مرسي في منتصف 2013، وهذه الأحزاب في برامجها تحتوي على المرجعية الإسلامية بصيغ مختلفة، سواء بشكلها الواضح أو بالحديث عن مرجعية المادة الثانية في الدستور، وهي مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أو مرجعية الحضارة الإسلامية كحزب الوسط، وبشكل عام ففكرة الاعتداد بالمطلق الديني فيه تضليل، والادعاء بأن هناك تفصيلا لكل شؤون الحياة موجود داخل النص الديني المطلق فهذا أمر فيه من الهزل أكثر مما فيه من الجد وفيه كثير من خلط الأوراق، فهو يساوي بين الإنتاج البشري اللاحق على النبوة، وبين النص المؤسس، ولا يفرق بين إلزامية النص وامتداده الزمني اللاحق، أو توقفه عند زمن معين، ومكان معين. وعلي سبيل المثال لا الحصر، الحديث عن الأشهر الحرم "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير"، وهذا أمر كان يخص هذا الزمن وهذا المكان، حيث كانت هذه أشهُرالتجارة في رحلتي الشتاء والصيف وشهر الحج، وتوافق العرب على إيقاف الحرب في تلك الشهور لاستمرار الحياة، وجاء الإسلام ليعترف بهذا العرف الجاهلي، وقضايا الإماء والغنائم والأخماس، أيضا تجاوزه الزمن، فليس من المعقول أن تسيطر كتيبة على مطار به 10 طائرات فيعطوا الدولة الخمس وهو طائرتان ويوزعوا الباقي في ما بينهم، وكذلك بالنسبة للمدرعات أو الدبابات، كل هذه الأمور تجاوزها الزمن، وقد أدرك اللاحقون ذلك، فتجاوزوا النص بمناورات فقهية منها الناسخ والمنسوخ، فينسخون ما يشاؤون حتى ادَّعوا أن السنة تنسخ القرآن، وهو محل جدل كبير، وكثيرا ما تُبنى للمجهول، ويقولون أجمع أهل العلم على أنها نسخت، ولا تدري من هم أهل العلم، رغم أنهم في مجال الروايات يدققون، ويبحثون عن السند وعن جرح وتعديل الأشخاص والرجال، وكذلك مناورات الإطلاق والتقييد أو التعميم والتخصيص، وفي النهاية وضعوا ما يسمى المصالح المرسلة والتي تقبل تجاوز كل شيء تحت مسمى المصلحة، وقفز الشاطبي بموافقاته قفزة هائلة عندما نظر لفقه المقاصد والمآلات، وصنف الأمور إلى حاجات وتحسينات وضروريات، وفتح بابا لتجاوز النصوص إذا اصطدمت مع الواقع، مع العلم أن النص المؤسس رغم أنه قطعي الثبوت ولكن في أغلبه الأعم ظني الدلالة. من المؤكد أن المطلقات الأخلاقية والعقائدية هي مطلقات ممتدة معنا مدى الحياة، وهي تخص الفرد ولا تخص المجتمع، أما التشريعات وهي لا تتعدى 7% من النص المؤسس، فهي تتحاور مع المجتمع وتتفاعل معه لحظة بلحظة وعاما بعد عام، وكما استطاعت تعديل تشريعات نزلت لليهود، فقد تفاعلت وعدلت نصوص نزلت في الإسلام، كما حدث مع تحريم الخمر، أو مع تغيير القبلة، أو حتى مع قضية التبني مع زيد بن حارثة أو مع الصبر في مرحلة والإذن بالقتال في مرحلة أخرى، وبعد ذلك تجاوز عمر النص المؤسس في قضية المؤلفة قلوبهم وفي قضية قطع يد السارق في عام الرمادة.
أما النص الثاني وهي المرويات والتي يطلق عليها السنة، فهي مرويات ظنية الثبوت قابلة للتجاوز إذا اصطدمت مع المصلحة أو العقل بدون أي حرج، ولا يستطيع أحد الاحتجاج بها على أساس أنها ملزمة، فهي لم تتجاوز القطعية الثبوتية حتى نتجاوزها إلى فكرة الإلزام من عدم الإلزام، وكل ما أنتج التاريخ الإسلامي بعد ذلك هو منتج بشري صرف لا يجب التعامل معه بأي قداسة، ما يناسبنا منه نقبله بكل تأكيد وما يتعارض مع ظروف مجتمعنا، وثقافته الجديدة نرفضه، من خلال عقل جمعي لديه الوعي للتمييز والاختيار والتشريع. ورغم كل ذلك فإني أرى أن المواءمة السياسية تستدعي عدم التطرق لهذا الأمر في هذا التوقيت، فمصر مأزومة سياسيا واقتصاديا، ولا تتحمل مزيدا من الضغوط أو التفلت، وربما يقع شباب حزب البناء والتنمية المحال حاليا للجنة شؤون الأحزاب للحل تحت ضغط شباب جماعة الإخوان والمتحالفين معهم، وتحت وطأة الشماتة، يحيطونهم بأجواء اليأس ويسحبونهم مرة أخرى إلى مربعات العنف، كل التيارات الإسلامية لم تتخلَّ عن العنف الفكري، والفكرة الأممية المسيطرة عليهم، ومشاريع تطبيق الشريعة الوهمي، وفكرة الخلافة والدولة الإسلامية والمجد والعدل العُمري المأمول مسيطر على عقولهم، ولكن فكرة التخلي عن العنف والتنظيمات السرية، إلى مربعات العنف الفكري فقط، وأن تظل هذه الأفكار حبيسة الصدور، ربما تتغير مع الزمن، وتتبدل الأفكار، أو تفتر الهمة والحماسة تحت مظلة تلك الأيديولوجيات الفاسدة، انشغالهم بالعمل الحزبي، والمشاركة في المحليات، وتشاركهم مع أبنوب وكريستين مثلاً في لجان المحليات سواء كانت لجنة التعليم أو الكهرباء أو الطرق، والهم المشترك، ربما يحلحل تلك الأفكار الجامدة، وربما يشعرون أن هناك أمورا مشتركة ربما تجمعنا لصالح هذا الوطن الذي يظلنا جميعا. خاصة أن طارق الزمر ومحمد الإسلامبولي استقالا من منصبيهما في رئاسة الحزب والهيئة العليا، وقُبلت هذه الاستقالة، فأتمنى أن يؤخذ هذا في الحسبان، خاصة أن البناء والتنمية ليس الحزب الوحيد، وهناك الحزب الأهم والأكثر إثارة للجدل والحاصل على عشرة مقاعد في البرلمان وهو حزب النور، وكان حاضرا مشهد الثالث من يوليو، وأيضا وقف بتصويته مع النظام في الأزمة الأخيرة الخاصة بالجزر، ولا أعتقد أن النظام من منطلق المواءمة السياسية، سيتخلى عنه في هذا الوقت، فبالقياس، يتم تفويت الفرصة، وعدم إعطائهم مظلومية كاذبة، وربما تلاحقنا تهمة الإقصاء، فلا نغلق عليهم المربع ونجعل ظهورهم للحائط، نترك ممرا سياسيا آمنا يُعبرون من خلاله عن أفكارهم ونواجههم فكرا مقابل فكر، وليأخذوا فرصتهم كاملة عندها ستضح هشاشة تلك الأفكار، لأن الإخوان المسلمين موجودون في البرلمان من 84 وحتى 2010، وطبعا في 2011 وكانوا يدَّعون دائما أن تقنين الشريعة الإسلامية موجود في الدرج عند رفعت المحجوب ومن بعده فتحي سرور، ولكنهم لا يريدون إخراجه، إنهم يكرهون الإسلام، ولكنهم صعدوا حتى أصبح معهم مفاتيح الدرج، الكتاتني، ولم يخرج هذا التقنين، لم يقدموا خلال 3 عقود من الزمن نصوصا ممسوكة نناقشها حتى نقف على حقيقتها هل هي مطلقة قادمة من السماء، أم بشرية قادمة من الأرض، وعندها ستكشف الحقيقة للجمهور، وعليكم أن تتطلعوا على الدستور الإسلامي للمستشار علي جريشة، أو التشريع الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة، لندرك حجم السفه والهشاشة المحمول داخلها على أساس أنها تشريعات قادمة من السماء، وهي قادمة من أسوأ خنادق الفكر الأرضية.