علاقة جماعة الإخوان بالنظام السياسى المصرى منذ ثورة 1952 وحتى عهد مبارك, كانت موضوعا للرسالة التى نلت عنها درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية, والتى صدرت فى كتاب حمل عنوان «الدولة والحركات الإسلامية المعارضة: بين المهادنة والمواجهة» فى النصف الثانى من التسعينيات, ثم تلته كتب أخرى وعديد من الأوراق البحثية باللغتين العربية والانجليزية, وإن تناولت فترات لاحقة على الحقبة الناصرية. وكنت أعتقد كما يعتقد كثيرون غيرى من العاملين بالحقل الأكاديمى- أن هناك وقائع تاريخية باتت محسومة استنادا إلى التوثيق العلمى والتاريخى لها وليست الميول والأهواء السياسية أوالأحكام الذاتية. لذلك فاجأنى هذا الكم الهائل من الغضب والانتقادات اللاذعة التى وُجهت للكاتب الكبير وحيد حامد لتعرضه لعلاقة عبد الناصر بالإخوان قبل ثورة يوليو فى مسلسل الجماعة فى جزئه الثانى, الذى عُرض فى شهر رمضان, واتهامه بالاعتماد على مراجع «إخوانية» رغم أن مواقفه المناهضة لفكر الجماعة والاسلام السياسى عموما معروفة.
صحيح أن كثيرا من رموز جماعة الإخوان وقياداتها أرّخوا لهذه الفترة, لكنهم بالقطع لم يكونوا الوحيدين فى هذا المجال, فمعظم المؤرخين من خارج صفوف الإخوان أكدوا نفس العلاقة, وحتى المستشار طارق البشرى عندما تطرق لها (أى علاقة ناصر بالإخوان) فى عمله الضخم «الحركة السياسية فى مصر 1945 -1952» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى بداية السبعينيات من القرن الماضى لم تكن له انحيازات إخوانية, لذلك عندما أعاد طبعه حديثا عن دار الشروق, وقد مالت توجهاته الفكرية ناحيتهم, حرص على تمييز الجزء المضاف, وبقى النص الأصلى كما هو دون تغيير. ولم تخرج أعمال معظم المؤرخين عن هذا الخط، على تباين اتجاهاتهم السياسية يمينا أويسارا, فنفس التوصيف سنجده مثلا عند د.عبد العظيم رمضان (تطور الحركة الوطنية فى مصر الصادر فى أربعة أجزاء) ناهيك عن عشرات الكتب والمذكرات السياسية للذين عاصروا هذه الفترة ومنهم من انتمى للضباط الأحرار, وهو ما ركز عليه مقالا الأستاذ صلاح عيسى والأستاذة فريدة النقاش بعرضهما جانبا من مذكرات د. خالد محيى الدين «الآن أتكلم» على سبيل المثال لا الحصر.
علاقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالإخوان من نوع العلاقات المعقدة أو المركبة, بدأت بالتقرب (إن كان مصطلح الانتماء يصيب البعض بالصدمة) والتعاون ثم الاختلاف الذى تأرجحت خلاله العلاقة بين المواجهة حينا والاحتواء حينا آخر وصولا إلى نقطة اللاعودة أو الصدام الحتمى, وهو الجانب الأشهر فيها.
كان العداء للنظام الملكى ولحزب الوفد صاحب الأغلبية والذى وصل للحكم أكثر من مرة قبل الثورة هو الأرضية المشتركة التى بُنيت عليها تلك العلاقة إضافة إلى حرب 1948 ومناهضة الاحتلال الإنجليزى لمصر, ثم تصدعت تلك الأرضية على خلفية الصراع على اقتسام النفوذ وتوزيع الحقائب الوزارية بعد نجاح الضباط الأحرار فى إزاحة النظام القديم ومطالبة الإخوان بنصيب أكبر فى السلطة تأسيسا على تعاونهم الذى سبق الثورة. بعض دلالات هذا التعاون -وليس كلها- استثناء جماعة الإخوان من قرار حل جميع الأحزاب السياسية فى 18 يناير1953 (بعدما اعتبرها قانون تنظيم الأحزاب 179 لسنة 1952 مجرد جماعة دينية)، إصدار عفو خاص (تحديدا 11 أكتوبر 1952) عن قتلة المستشار أحمد الخازندار وبقية المسجونين فى قضية اغتيال النقراشى, وعفو شامل عن مرتكبى جميع الجرائم السياسية (فى الفترة من توقيع معاهدة 1936 إلى ثورة 1952) وكان أغلب المتهمين فيها من الإخوان, كذلك عدم فتح تحقيقات قانونية حول حريق القاهرة, الذى تردد تورط الجهاز السرى أو النظام الخاص للإخوان فيه رغم انقضاء الحقبة الملكية بكل نخبتها وجلاء الاحتلال, إلى جانب العداء الشديد لأصحاب الاتجاهات الماركسية والشيوعيين (الذين يصنفهم الإخوان كمعادين للأديان والذين تم استثناؤهم من قرارات العفو) وهو العداء الذى استمر طويلا رغم تحالف ناصر بعد ذلك مع الاتحاد السوفييتى وتبنيه الاشتراكية, بعبارة أخرى إذا كان العداء لليبراليين, الذين اعتبرهم رمزا للرجعية والامبريالية وغيرها من مصلطحات رنانة مفهوما, فالعداء الأخير ظلت أسبابه غامضة أو لا تُفسر إلا فى سياق تلك العلاقة. لذلك فإن ما أورده المخرج خالد يوسف فى تعليقه على «الجماعة 2» (بأن جمال عبد الناصر قد بحث فى كل التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية عن ضالته فلم يجدها..وانضم شكليا لبعضها ليستطيع التقييم الصحيح) كان هو الذى يحتاج إلى أسانيد تدلل علي صحته, وإلا فبأى مقياس يمكن الجزم بأن انضمامه لبعضها (والمقصود هنا الإخوان فى الأساس) كان شكليا؟
وبغض النظر عن التفاصيل, لأنها كثيرة, فالسؤال هو هل فى الكشف عن هذا الجانب من التاريخ ما يسىء للرئيس الراحل؟ الإجابة لا, فكل السياسيين قد يبدّلون مواقفهم ويُعدّلون من أفكارهم, بل ان كثيرا من المثقفين يفعلون ذلك أيضا دون أن يستدعى ذلك كل هذه الضجة, لكن المسىء وغير المقبول هو تلوين التاريخ ومحاولة إسقاطه قسرا على الحاضر والعكس, أى مضاهاة الحاضر بالماضى. فأغلب من هاجموا المسلسل سعوا عنوة لربطة بثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان والادعاء بأنه ينال من شرعيتها, وكأننا مازلنا فى العصر الناصرى, الذى لا يعترفون بانقضائه, فلا الزمان هو الزمان، ولا الرئيس عبد الفتاح السيسى هو جمال عبد الناصر, فلكل عهد ظروفه الخاصة التى لا يمكن قياسها إلا بمعايير زمانها, والمواجهة الحقيقية مع الإخوان لم تبدأ إلا فى الوقت الحالى, فقبله بعقود وإلى عهد مبارك كان ما يتوارى خلف الكواليس يفوق بكثير المعلن منه.
إن الأزمة الحقيقية التى خلفتها «الجماعة 2» لا تكمن فيما كشف عنه العمل, حتى وإن كانت هى المرة الأولى التى يتصدى فيها عمل فنى للمساحة المسكوت عنها فى علاقة ناصر بالإخوان, وإنما فيمن يصبغون شكلا أسطوريا على الزعماء. الأزمة باختصار هى فى منطق التفكير الذى يصادر كل شىء يختلف عما يراه أصحابه, فمثلما يطالب أنصار التيار الناصرى بمحاربة «الأصولية» فى مجال الإسلام السياسى فعليهم هم أيضا أن يتخلصوا منها, لأن الأصولية - بمعنى الجمود فى التفكير- قد تصيب فى النهاية أى تيار فكرى.