الأهرام
محمد سلماوى
الفرنسية التى اعترضت على «إهانة» العرب !
فى مبنى مجلس الشيوخ العتيق الواقع داخل واحدة من أجمل الحدائق العامة فى باريس، وهى حديقة لوكسمبورج، قابلت عضوة مجلس الشيوخ جويل جاريو مايلام التى كانت أول من رفعت صوتها فى فرنسا بالاعتراض على قيام الرئيس السابق فرانسوا أولاند بترشيح وزيرة ثقافته أودرى أزولاى لمنصب مدير عام اليونسكو، واصفة ذلك الترشيح فى بيان رسمى صادر باسمها، بأنه «إهانة» للعرب الذين كان متفقا على أن يكون المنصب هذه المرة من حقهم.

كان الجو فى باريس صحوا بعد غيم حجب الشمس أياما، وانزل بعض قطرات المطر فى غير موعدها بهذا الشهر الذى هو منتصف فصل الصيف. مررت بحدائق لوكسمبورج الغناء وانا أقاوم دخولها بسبب موعدى المحدد مع عضوة مجلس الشيوخ، لكنى تذكرت بسرعة تاريخ هذا المكان الخلاب الذى يعود الى عام 1612 حين اشترت تلك الأرض مارى دى ميديتشى زوجة الملك هنرى الرابع وشيدت فيه قصرها هذا، ثم آلت ملكيته بعد قيام الثورة الفرنسية الى الدولة وأصبح ملكية عامة، الى أن أصبح القصر مقرا لمجلس الشيوخ عام 1879 خلال حكم الجمهورية الثالثة وفتحت حدائقه ببحيرتها الشهيرة للجمهور.

استقبلتنى چويل جاريو مايلام فى مكتبها وقد فتحت نافذته الكبيرة على مصراعيها ليملأ الغرفة ضوء النهار. أهديتها النسخة الفرنسية من روايتى «أجنحة الفراشة» التى كانت قد قالت لى إنها سمعت كثيرا عنها لكنها لم تقرأها، وقمت بتصدير الكتاب بإهداء يعبر عن تقديرى لموقفها المبدئي فى الدفاع عن حق العرب فى الوصول الى موقع المدير العام لليونسكو، وما أن قرأت الإهداء حتى دخلت على الفور فى الموضوع الذى جئت لأتحدث معها فيه، حيث قالت: صدقنى إننى كنت فى الحقيقة أدافع عن فرنسا وحقها فى أن تكون مواقف قادتها أخلاقية، فقد كان هناك اتفاق مسبق أقرته فرنسا لأن يكون الدور هذه المرة على العرب لتبوؤ منصب المدير العام لليونسكو، وذلك بعد أن حصلت أوروبا على هذا المنصب ست مرات، وحصلت عليه أيضا كل من أمريكا اللاتينية وآسيا، لكن لم يحدث أن حصل عليه العرب ولا مرة واحدة منذ قيام المنظمة قبل قرابة ثلاثة أرباع القرن.

ثم أضافت عضوة مجلس الشيوخ الفرنسى التى ولدت فى الجزائر عام 1955: إن للعرب تاريخا عريقا فى الأدب والثقافة، ومصر من بين الدول المؤسسة لليونسكو، فكيف نحول دون وصولها الى إدارة المنظمة التى أسستها؟! صحيح أنه ليس هناك اتفاق مكتوب ينص على أن الدور هذه المرة للعرب، لكن هل تدهورت أخلاقيات السياسة الفرنسية الى حد أن الدول يجب أن تأخذ توقيع فرنسا على أى تفاهم تصل اليه معها وإلا تنصل منه رئيس الجمهورية ورشح بنفسه من ينافس من اتفق على أن الموقع من حقهم؟! ثم قالت بالحرف الواحد: إن فرنسا حين تقطع على نفسها وعدا فعليها أن تنفذه.

وأوضحت جويل جاريو التى أضافت الى اسمها اسم زوجها الانجليزى أنتوني مايلام حين تزوجته عام 1985، أنها قابلت بعض المرشحين التسعة لمنصب المدير العام لليونسكو، ووجدت - حسب قولها - أن المرشحة المصرية السفيرة مشيرة خطاب هى الأفضل، وقالت إن وصولها لهذا الموقع يحقق أكثر من هدف، فهى امرأة مثقفة ومستنيرة وذلك سيصحح تلك الصورة النمطية عن المرأة العربية، كما أن وجودها فى هذا الموقع وهى القادمة من العالم العربى، سيخدم قضية محاربة التطرّف والإرهاب بأكثر مما يخدمه وجود مدير أوروبى، بالإضافة الى أنى وجدت من خلال حديثى معها، أنها ملمة بكل القضايا التى تهم اليونسكو، ولها رأى فيها، وتصورات حول كيفية التعامل مع كل منها، فكيف يغيب عنا كل ذلك ونزج بمرشحة فرنسية الى هذا الموقع؟ لقد ارتكب أولاند بتلك الخطوة خطأ أخلاقيا ودبلوماسيا فى الوقت نفسه.

قلت: لقد قابلت منذ وصولى الى باريس عددا من الصحفيين ووجدت أن الرأى السائد بينهم هو أن الرئيس الفرنسى السابق أراد قبل أن يترك قصر الإليزيه، أن يكافيء أعوانه المقربين بأن يسكنهم فى بعض المواقع ولا يتركهم فى العراء، وقد استخدموا فى ذلك كلمة caser أى أنه أراد أن «يحشرهم» فى أى موقع حتى لو كانوا سيزاحمون آخرين أحق منهم بذلك الموقع، وذكر لى بعضهم مثل سيجولين روايال أم أولاده التى لم يتزوجها والتى كان قد عينها وزيرة للبيئة ثم قبل مغادرته الرئاسة رشحها باسم فرنسا لرئاسة برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة لكنها خسرت لصالح المرشح الألمانى، كما ذكروا أيضا مثل صديقته المقربة آن هيدالجو التى كانت الدولة وراء وصولها الى موقع عمدة باريس.

ثم قلت: على أن المسألة تبدو عندنا فى العالم العربى أعمق من ذلك، فتلك ليست المرة الأولى التى يقوم فيها الغرب باعتراض طريق مرشح عربى لوقف تقدمه نحو موقع مدير عام اليونسكو، فقد حدث هذا مع اسماعيل سراج الدين بحجة أن مصر لم ترشحه رسميا، وحدث مع فاروق حسنى بسبب عبارة أخرجت من سياقها واعتذر عنها، على أي حال، والآن هاهو يتكرر مع مشيرة خطاب التى لم تجد الدوائر اليهودية التى وقفت فى طريق الترشح العربى فى السابق ما تأخذه عليها حتى الآن فقررت دولة المقر ذاتها أن تدخل بكل ثقلها لتوقف تقدمها، كما لو كان هناك رفض من حيث المبدأ لحصول العرب على إدارة اليونسكو، ومن هذا المنطلق فإن موقفك الرافض للترشح الفرنسى لا يمكن تجاهله، خاصة وأنك ممثلة مجلس الشيوخ فى اللجنة الوطنية الفرنسية لليونسكو.

قالت: ومن هذا الموقع اعترضت لأنه جرت العادة على أن دولة المقر دائما ما تنأى بنفسها عن منافسة الدول الأخرى فى الحصول على إدارة المنظمة الدولية التى تستضيفها على أرضها.

لقد انتخبت جويل جاريو مايلام بمجلس الشيوخ لأول مرة عام 2004 لمدة سبع سنوات ممثلة للفرنسيين المقيمين فى الخارج، ثم أعيد انتخابها مرة ثانية عام 2011، وقد زاد من احترامى لها أن علمت أنها اتخذت موقفها المبدئي هذا وهى مقبلة على انتخابات جديدة فى شهر سبتمبر المقبل لتبدأ دورة برلمانية جديدة فى بداية عام 2018، وهى الانتخابات التى عادة ما تنشط فيها الدوائر اليهودية التى لم تكن سعيدة بموقف جويل جاريو من المرشحة الفرنسية ابنة المستشار العجوز لملك المغرب أندريه أزولاى الذى ينتمى لعائلة يهودية ذات تأثير واسع يتخطى حدود المغرب ويتصل اتصالا مباشرا بدوائر التأثير اليهودية فى فرنسا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف