الأهرام
يوسف القعيد
الحكواتى
عندما تبدأ الكتابة بالحيرة يتوقف الإنسان قبل أن يكتب. أريد الكتابة عن سعد الدين وهبة. واحترت هل أكتب عن معرفتى الشخصية به؟ أم أكتفى بالتوقف أمام المجلد الضخم الذى صدر عن المجلس الأعلى للثقافة: أيام من حياتى سعد الدين وهبة. تولى جمعه وإعداده الأمير أباظة.

كلما اقتربت من ذكرياتى مع من عاصرتهم وعرفتهم أجلت الأمر. ولا أدرى إلى متى أؤجله. فمنذ مقابلة محمد عبدالحليم عبدالله فى دمنهور فى منتصف ستينيات القرن الماضي، وأنا ألتقى بأعداد كبيرة ممن صنعوا لنا أدبنا وحكايات حياتنا وأشعارنا ومسرحنا، سواء من المصريين أو من الأشقاء العرب. أعداد لا تحصى وحكايات لا تنتهي.

ما زال الفلاح فى أعماقى هو الذى يوجه سلوكياتي، وهو أمر أرغب فى تغييره ولا أستطيع. هذا الفلاح يدفعنى لتأجيل الأمر. فإن كان فى العمر بقية ربما أدون شهادتى عنهم. خاصة من مدوا أياديهم إليَّ ومن ساعدونى ومن وقفوا بجوارى فقط.

كتابة الانتقام عن الموتى لا تسعدني. ولذلك لو قررت أن أفعل هذا سأكتب عن المناطق الخضراء فى ذكرياتي. أما الأرض القاحلة والبرارى اليباب، فسأتركها لتموت. لأنه لا بطولة عندما يقف الإنسان على قبور الموتى ليقول ويكتب ما لم يقله ويكتبه فى حياتهم.

وقد دهشت لحد الذهول عندما قرأت فى مقدمة الأمير أباظة أنه يعود إلى المذكرات التى سبق أن نشرها بعد 19 عاماً أو يزيد من رحيل كاتبها. فقد استهولت أنه قد مرت كل هذه السنوات بعد رحيل سعد الدين وهبة. ويبدو أن السنوات تجرى من حولنا ونحن لا ندرى.

وسعد الدين وهبة مولود فى قرية دميرة فى 4 فبراير 1925، وقد توفاه الله فى 11 نوفمبر 1997. ما أكثر قدرتنا على النسيان وليس التذكر. مع العلم أن تذكر من رحلوا عن الدنيا عمر ثان لهم. ولكن ما الحل مع الذاكرة التى تأبى النسيان، وهى ليست ذاكرة للنسيان كما كان يتحدث شاعر فلسطين محمود درويش كثيراً.

أى محاولة لتلخيص هذا السِفر الضخم الذى يقع فى حوالى ستمائة صفحة من القطع الكبير خيانة للمعلومات الثمينة والزمن الجميل الذى يحاول المؤلف استعادته من خلال مذكرات أو ذكريات سعد الدين وهبة. فالكتاب ملئ بحكايات من عرفناهم. بل إنه يقدم الوجه الآخر فى حيواتهم. الوجه الذى لم نعرفه لأن سعد الدين وهبة كان جزءاً من الواقع الثقافى المصرى والعربى والعالمى منذ أن بدأ حياته الثقافية وحتى لحظة عمره الأخيرة. فضلاً عن أنه كان حكاء بديعاً.

لو أسعدك زمانك وقرأت مذكرات سعد الدين وهبة. فستدخل معه إلى الشوارع الخلفية فى حياة رموز عصرنا ونجومه. طه حسين عندما كان عضواً فى مجلس إدارة جريدة الجمهورية، وكان رئيس مجلس الإدارة صلاح سالم، ضابط يوليو الشهير المثير للاختلاف. علماً أن سعد الدين وهبة يبدو معجباً به قريباً منه يدون من خلاله كثيرا من الحكايات التى ربما لا نعرفها عن جمال عبدالناصر وعلاقته المركبة مع صلاح سالم.

أم كلثوم لها مكان كبير فى المذكرات، اقترب منها سعد الدين وهبة أول مرة عندما كان هناك مشروع لعمل فيلم تقوم ببطولته. وهو الفيلم الذى لم يخرج إلى النور. ثم عاود الجلوس معها ليكتب فيلماً عن حياتها. ذهب إليها فى بيتها وكان قريباً من بيته ووضع أمامها جهاز تسجيل وطلب منها أن تتكلم فرفضت لأنها لا تكلم الحديد.

أخرج ورقاً وقلماً لكى يدون وراءها. فرفضت لأنها لا تكلم الأقلام ولا الأوراق. إذن ماذا يمكن أن تكلم أم كلثوم؟ تريد أن تكلمه هو. أن تأتى عيناها فى عينيه وهى تتكلم ـ وذلك هو تعبيرها بدقة ـ أما غير هذا فهى ترفضه. والواقعة معناها أن كوكب الشرق أشهر من غنت فى تاريخنا الحديث كانت تعلى من إنسانية تعاملها مع الناس وترفض كل ما هو مصطنع وجديد فى حياتهم.

لفاتن حمامة حكايات، فوجئ سعد الدين وهبة بزكريا محيى الدين يتصل به. ذهب إليه، سأله زكريا محيى الدين عن فاتن حمامة، لماذا تركت مصر وذهبت إلى بيروت؟ قال له سعد الدين وهبة أنها ذهبت لزيارة أسرة زوجها عمر الشريف هناك، وستعود إلى مصر.

معلومات الدولة أكدت أنها هاجرت من مصر وستعيش فى بيروت. وأن عبد الناصر قال لزكريا محيى الدين إن فاتن حمامة ثروة قومية كبرى ولا بد أن تعود لمصر وأن تعيش فى مصر. وأن تقدم فنها فى مصر. حاول سعد الدين وهبة محاولات كثيرة لينفذ رغبة عبد الناصر. ولكن فاتن حمامة لم تعد إلى مصر إلا يوم وفاة جمال عبد الناصر.

وهذه القصة تهدم الكثير من الفولكلور الذى عرفناه. وقد سمعتها شخصياً أكثر من مرة تنتقد حكم عبد الناصر بصورة تكاد تصل لرفض مطلق فى التعامل مع هذا العصر. فهل لم تكن تعرف حرص عبدالناصر عليها؟ أم أنها كانت تعرف وسنوات بيروت أثرت فيها كل هذا التأثير؟.

يكتب سعد الدين وهبة أن جمال عبدالناصر كان يشعر بالغيرة من صلاح سالم بسبب شهرة صلاح سالم الكاسحة فى الغرب. خصوصاً بعد أن سافر إلى السودان ورقص هناك عارياً. ولذلك لم تكن العلاقة سلسة ولا سهلة بينهما. وأنا لا أعتقد فى دقة المقولة. لأن عبدالناصر كان قد حقق مشروعا وأقام نظامه وخرج من إطار أن يشعر بالغيرة من أحد، أياً كان هذا الأحد.

عند صدور طبعة جديدة من الكتاب، أرجو من الأمير أباظة مراجعته بدقة. هناك الكثير من الوقائع المعادة. ويبدو أنه اعتمد على ما نشر فى الصحف مما كان يحكيه سعد الدين وهبة دون مراجعة. وهناك فارق بين ما يمكن أن ينشر فى جريدة. لكن عند جمعه للنشر فى كتاب لابد من إعادة صياغته. ولذلك توجد أكثر من حكاية مكررة بنصها. وهو أمر يسأل عنه الكاتب والمجلس الأعلى للثقافة.

فاتنى أن أحيى إنسانية الأمير أباظة وإخلاصه ووفاءه لمن أحبهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف