مناقشة حادة جرت بين جمال عبدالناصر وأحد رموز وزراء الاقتصاد في الخمسينات.. كان الوزير يشكو من الضغوط التضخمية علي الاقتصاد المصري ويقترح لمواجهتها سياسة تقشف.. وكانت العلاقة بين الرئيس والوزير سيئة في تلك الفترة.
قال عبدالناصر: ماذا حدث يادكتور منذ سنة واحدة فقط كان خصوم سياستك يقولون انها تؤدي إلي التضخم وكنت أنت تنكر هذا بشدة.. فماذا جد؟
قال الوزير : كان ذلك منذ أكثر من سنة فقال الرئيس مؤكدا: لا منذ سنة واحدة فقط ومع ذلك لنقل سنتين فما الذي تغير في سياستنا انها كما هي وارقامها لا زادت ولا نقصت بل ان الانفاق الحكومي أصبح أقل.
اضاف جمال : اسمع يادكتور سأكشف لك السر في ذلك.. انت ذهبت الي "المومس الفاضلة".. واندهش مجلس الوزراء من هذا الأمر؟!
وبدأ الرئيس يشرح : زمان قرأت كتابا لاقتصادي أمريكي كبير يقول: اننا ننهي الدول النامية عن ان تقوم بالتنمية في ظل التضخم في حين ان أمريكا تعاني من تضخم رهيب وتواصل في ذات الوقت التوسع في اقتصادها فكأننا مثل المومس الفاضلة التي تمارس الرذيلة ثم تقف علي باب دارها تحذر الناس من الوقوع في الاثم.
وضحك الوزراء طويلاً.. وخرج الوزير بعد ذلك في أول تعديل جري ويومها قال بعض الوزراء: ان ثقافة جمال عبدالناصر علي هذا النحو ليست في مصلحتنا!
الحكاية رواها الكاتب ووزير الثقافة والارشاد فتحي رضوان وكان "شاهدا عليها والهدف من الحكاية ان نكشف للناس كيف ان القراءة صنعت فكر هذا الزعيم.. وقد اعترف ان هناك مجموعة من الكتب شكلت وجدانه وساهمت في رؤيته".
وقد تجلت ثقافة ناصر في كتابه "فلسفة الثورة" الذي قال فيه:
"لكل شعب من شعوب الارض ثورتان.. ثورة سياسية يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه أو من جيش معتد اقام علي أرضه دون رضاه.. والثورة الثانية اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها علي ما يحقق العدالة لابناء الوطن الواحد".
** يا الله.. اليس هذا الكلام ينطبق شكلا وموضوعا علي ما جري لنا في مصر بعد اكثر من اربعين عاما من وفاة عبدالناصر وكأنه يقرأ الغيب وراجع ما حدث في ثورتي يناير ويونيه!
لقد اخترت ان اتكلم عن الكتاب في حياة هذا الزعيم وثقافته فقد ذهب ليشاهد مسرحية دموع ابليس لمؤلفها فتحي رضوان هو الذي طلب ذلك ثم ناقش كاتبها في نهاية المسرحية واكتشف ان المخرج غير النهاية وتأثر بفيلم "مصطفي كامل" لنفس المؤلف وكان معجبا به بل انه طلب منه فيلما عن "محمد فريد" وكان قد استمع الي القصة والإذاعة تقدمها في حلقات مسلسله وقد قال الكاتب الفرنسي "فوشيه" ان عبدالناصر قرأ وهو لايزال طالبا بالكلية الحربية عددا من الكتب منها "عودة الروح" لتوفيق الحكيم وقال أكثر من مرة ان هذا الكتاب كان ملهمه في الثورة.. وقرأ كذلك كتاب "الذنب الاغبر" عن كمال اتاتورك الذي ألفه "أرمسترونج" وقد استعاره من مكتبة الاستاذ حلمي سلام الذي رأس تحرير جريدة الجمهورية من بداية الثورة.
وهو صاحب فكرة تلخيص الكتب العالمية التي تصور وكتابتها علي الآلة الكاتبة ثم توزيعها علي المسئولين وهذه الفكرة هي التي اصبحت فيما بعد سلسلة الكتب الشهيرة "اخترنا لك" وكان يقرأ الصحف الاجنبية في لغتها الاصلية.
وعندما اشتكي وزير الثقافة من ضعف الاقبال علي الكتب الرخيصة التي تصدرها الوزارة باقلام كبار الكتاب كان جواب عبدالناصر:
50 كتاباً يقرؤه فرد واحد يتأثر به قد يؤثر فيما بعد في الآلاف..!!
كان يحب السينما ايضا ويعتبر ان السياسة حرمته من متعة مشاهدة الأفلام ولما وقعت مشكلة فيلم "شيء من الخوف".. وحاول البعض وقتها ان يوحي لعبدالناصر بان شخصية "عتريس" بطل الفيلم تقصده.. شاهد الفيلم وابتسم ساخرا ووافق علي عرضه.
وفي موقف اخر منعت الرقابة فيلم "أريد أن أعيش" بطولة سوزان هيوارد بحجة انها صهيونية وشاركت في جمع تبرعات لليهود.
ثم فوجئ وزير الثقافة بعد سنوات من منع الفيلم بعبد الناصر يسأله: إلي متي تمنعون هذا الفيلم الجيد.. ان من طالبوا بمنعه أغبياء والتهمة التي حاول الصاقها بالممثلة غير صحيحة ولا دليل عليها.. وتم عرض الفيلم بعد ان ثبت ان التهمة التي لحقت بالبطلة باطلة ومن الظلم حرمان الجمهور من عمل فني رائع.
وفي جلسة أخري للوزراء جاء ذكر مؤلف غربي وقال سيد مرعي ان كتابه يهاجم الثورة وكان رد عبدالناصر: هذا صحيح ويبدو انك قرأت الكتاب بالمقلوب.. لانك تقول عكس ما جاء فيه..
وعندما وقعت أزمة فيلم "الوصايا العشر" الذي تم تصويره في مصر.. ثار العرب في أمريكا واعتبروه عملا يخدم إسرائيل في المقام الأول وتم ايقاف الفيلم وجاء مخرجه وطلب مقابلة الرئيس وقال له ان القصة مستوحاة من القرآن الكريم.
وهنا لم يتمسك عبدالناصر برأيه وكتم اعجابه بالفيلم كمتفرج وتصرف كمسئول سياسي رأي ان الفيلم يعطي انطباعا بان شعب مصر من الاف السنين كان يضطهد الاقلية اليهودية وأظهر فرعون في ثوب الطاغية ضدهم.. وهنا تجاوز الامر حده كعمل فني ودخل الي نطاق السياسة.. واستشار ناصر أكثر من رأي واستجاب في النهاية لرأي الأغلبية ومنع الفيلم.
** في مكتبة عبدالناصر ايضا اشرطة لكبار قراء القرآن الكريم ففي عهده تم تسجيله كاملا لأول مرة واشرطة لأم كلثوم وعبدالوهاب وهو الذي جمعهما معا في أغنية "أنت عمري" إلي جانب اشرطة عبدالحليم الذي أرخ للثورة عبر حنجرته.
ثقافة عبدالناصر تدل عليه.. وتكشف لنا شخصيته وله 3 كتب ألفها منها فلسفة الثورة. يوميات حرب فلسطين. وقصة في سبيل الحرية.
** وآه من رئيس لايقرأ ولايسمع ولايري الا ما يقول الأهل والعشيرة والتنظيم!