من حقنا طبعا، ومن واجبنا أولا أن نطالب بتجديد الخطاب الديني، وأن نلح فى الطلب، خاصة فى هذه الأيام التى أصبح فيها الدين سياسة وتجارة وحرفة لمن لا حرفة لهم. وهم كثيرون يملأون الشوارع، ويرفعون الشعارات، ويزعقون فى الميكروفونات، ويعملون على تديين الحياة فى كل مجالاتها، أى فى إخلائها من كل ما يمت للحياة بصلة.
أنظروا إلى الرؤوس والوجوه، والصدور والظهور، والحيطان والنوافذ وزجاج السيارات المرسوم بأعلام السلفيين والإخوان الإرهابيين ورموزهم: الشهادتان أو السيف! لتروا أن كل ماحولنا أصبح إعلانا عن هذه التجارة الرائجة، وأننا أو كأننا خرجنا من حياتنا الدنيا ودخلنا آخرة قبل الآخرة. انقلبنا على أنفسنا وخرجنا من نهضتنا الحديثة وخلت بلادنا أو كادت من أى مصدر للمعرفة إلا ما ورثناه من العصور الوسطى التى أصبح خطابها الدينى مرجعنا الوحيد فى كل أمر وأصبح المروجون له والمتاجرون به هم أصحاب الأمر والنهى فينا وهم السلطة المطلقة فى كل مجال. وهذا هو الواقع الذى نعيشه منذ أكثر من نصف قرن ونفقد فيه طاقاتنا الحية ونواجه فيه الموت بكل صوره.
وقد آن لنا وقد ثرنا مرتين متواليتين على هذا الواقع الكابوسى الذى قذف بنا من جديد فى ظلمات العصور الوسطى نفكر بعقليتها ونعيد إنتاجها، آن لنا أن نتحرر من هذه العقلية، وأن نصل لخطاب دينى جديد نستأنف به السير فى طريق النهضة ونعطى ما للدنيا للدنيا وما للآخرة للآخرة.
ومن الطبيعى ونحن نطالب بتجديد الخطاب الدينى أن نتجه بطلبنا هذا لرجال الأزهر. لأنهم بحكم تخصصهم فى علوم الدين وبما لهم من مكانة روحية قادرون على أن يجتهدوا فى فهم النصوص الدينية وأن يقنعوا عامة الناس باجتهاداتهم. لكن علينا أن ندرك مع هذا أن تجديد الخطاب الدينى ليس مجرد بحث علمى أو دراسة نظرية يقوم بها بعض المختصين، وإنما هو فهم جديد للنصوص مبنى على فهم جديد للواقع الذى يتطور كل يوم ويتغير على العكس مما كان القدماء يظنون.
القدماء كانوا يظنون أن الواقع لا يتغير أو أنه حين يتغير يتدهور ويتعرض للسقوط والعدم كما يحدث للإنسان الذى يولد ويشب ويشيخ ويموت، ومن هنا كان خوفهم من أى جديد يدخل الواقع وحرصهم على أن يبقى كل شيء على ما هو عليه.
وقد جاءت العصور الحديثة لتبدد هذه الفكرة الأسطورية وتثبت أن الواقع أو التاريخ يتطور ويتغير كما تتغير الجماعات الإنسانية وتتطور إلى الأحسن والأفضل، تخرج من حياة الغابة إلى حياة المجتمع، ومن الاحتكام للغريزة إلى الاحتكام للضمير والقانون، من العبودية إلى الحرية، ومن الخرافة إلى العقل والمنطق. وكما يتطور الانسان ويتطور الواقع تتطور الثقافة، ويتطور فهمنا للدين ونصوصه.
هذا الفهم لفعل الزمن، وهذا الايمان بالتطور يفرضان علينا أن نشارك جميعا فى تجديد الخطاب الديني، لأننا نرجع فى تجديده للواقع الذى لا يعرفه علماء الدين وحدهم وإنما نعرفه جميعا، كل فى المجال الذى يعمل فيه، فلابد أن يسهم الجميع بما يعرفونه لتتكامل المعرفة ويتجدد الخطاب ابتداء من التمييز بين الثوابت التى نسلم بها تسليما لأنها تتصل بعالم الغيب وبين المتغيرات التى تتصل بالدنيا وبالواقع الذى نجتهد فى فهمه بعقولنا والسير به إلى الأصح والأنفع والأفضل عملا بما جاء فى الحديث الشريف «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
ونحن لم نكن نستطيع العمل بهذا الحديث فى العصور الماضية، لأننا كنا فى تلك العصور نعيش فى ظلمات لا نستطيع فيها أن نعرف شيئا من شئون الدنيا التى كانت. ملكا خالصا للغزاة والطغاة المتسترين بالدين ومن كانوا يعملون فى خدمتهم وينظمون لهم القصائد ويدبجون لهم الفتاوى حسب الطلب!.
لكن التطور قانون نافذ يفرض نفسه ويعمل عمله فى كل الظروف. يتحقق بالتدريج خطوة خطوة. ويتحقق بالثورة. بالعوامل الذاتية وربما بفعل خارجى تنشط به العوامل الداخلية وتنتقل من الركود والجمود إلى الحركة والفوران.
الأوروبيون خرجوا من عصور الظلام بعوامل مختلفة داخلية وخارجية، الصراع الدائم بين السلطة الدنيوية ممثلة فى الأمراء والملوك والأباطرة وبين السلطة الدينية ممثلة فى بابوات الكنيسة الكاثوليكية ورجالها. وتهديدات المسلمين وتقدمهم الحضاري. والتراث اليونانى اللاتيني. والكشوف الجغرافية. هذه العوامل التى ظلت تتفاعل قرنا بعد قرن حتى نقلت أوروبا إلى عصر النهضة الذى وقف فيه جاليليو ليعلن أن الأرض كروية وليست مسطحة كما كانت تعتقد الكنيسة الكاثوليكية وكما لايزال الشيخ بن باز يعتقد حتى الآن. واشتدت فيه الصراعات التى تجدد فيها الفكر الدينى المسيحى وظهرت الكنيسة البروتستانتية، وظهرت من بعدها الدول القومية التى حلت محل الإمبراطوريات الدينية.
والذى حدث عندنا لا يختلف كثيرا عما حدث فى أوروبا. التخلف المملوكى والهيمنة العثمانية باسم الإسلام. والحملة الفرنسية. واليقظة الوطنية.. هذه العوامل التى ظلت تتفاعل حتى ظهرت دولة محمد على التى استعادت لمصر استقلالها المفقود وسارت بها فى طريق النهضة التى تحققت فى كل المجالات ومنها الفكر الدينى الذى كان لابد أن يفتح فيه باب الاجتهاد ليواكب الإنجازات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التى حققتها النهضة. كل ما تحقق فى هذه المجالات كان أساسا لاجتهادات محمد عبده وتلاميذه.
فإذا كانت الحملة الفرنسية هى الصدمة الأولى التى أيقظت المصريين من نومهم الطويل وفجرت طاقاتهم المهملة المنسية وكشفت لهم عما فى الواقع الذى يعيشونه من تخلف وضعف وفساد وهوان، وعما لدى الفرنسيين فى المقابل من المعارف والنظم والقوانين التى لم يخف المصريون إعجابهم بها وهم يقاتلون أصحابها ويسعون لطردهم من بلادهم حتى تمكنوا من ذلك بعد ثلاث سنوات تعلموا فيها الكثير الذى ترجموه فى نهضتهم الحديثة إلى أعمال وأفكار ومؤسسات تحولت بها مصر من ولاية تابعة إلى دولة مستقلة تملى إراداتها على السلطان العثمانى وتهدده فى عقر داره وتضع يدها على السودان والشام والجزيرة العربية ـ أقول إذا كانت الحملة الفرنسية سببا من الأسباب وعاملا من العوامل التى نهض بها المصريون وجددوا حياتهم كلها، فالحملة الفرنسية سبب من الأسباب التى أشعرتنا بحاجتنا الملحة لتجديد خطابنا الدينى حتى يتجاوب الفكر مع العمل ويتصل الحاضر بالماضي.
تجديد الخطاب الدينى خطوة أساسية فى طريق النهضة والتجديد. لأننا لن ننهض إذا كنا نبنى فى المكاتب والمصانع والمزارع والمدارس ليهدم ما نبنيه المتطرفون والمتخلفون فى الزوايا والمساجد التى حلت محل المساكن والمعاهد والمستشفيات.. والحديث متواصل.