الأهرام
عبد المنعم سعيد
هوامش على دفتر الصحافة القومية
مرة أخرى أقدم التهانى للزملاء الذين أصبحوا فى قيادة الصحافة «القومية» فى البلاد؛ وأيضا للزملاء فى المجالس الوطنية العليا الذين بات على عاتقهم مهمة الإشراف والإدارة للمؤسسات الصحفية التابعة بالملكية للدولة المصرية. ببساطة لقد اكتملت المنظومة الدستورية الخاصة بالعمل الصحفى وأصبح السؤال المطروح هو ماذا نحن فاعلون بها، خاصة أنها من حيث «الحجم» وعدد العاملين والأصول والتأثير تشكل واقعا فى الصحافة والإعلام يماثل ذلك الذى تشغله البنوك العامة فى المنظومة البنكية والمالية المصرية، أو شركات التأمين «القومية» فى المنظومة التأمينية للدولة؟ الفوارق بين كل ذلك محفوظة وربما ليس أكثرها أهمية مدى المكسب أو الخسارة، وإنما المدى الذى وصلته كل منظومة من هذه المنظومات العامة فى الإصلاح المالى والإدارى والتنظيمى بحيث باتت هناك منظومة موجودة بالفعل تشكل العلاقات بين العام والخاص، وبين المؤسسات وبقية مؤسسات الدولة، وبين كل هؤلاء والعالم الخارجي. وفى الحالة الصحفية فإن الإصلاح بشأنها بات من الضرورات القومية، وهو الأمر الذى يتطلب حوارا واسعا داخل المنظومة كلها، وداخل كل مؤسسة على حدة، وفى كلا الحالتين فإن نقطة الانطلاق هى أن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه؛ ليس فقط بسبب تراجع الحالة المالية للمؤسسات، واعتمادها المتزايد على الموازنة العامة للدولة، وإنما أيضا، وأيا كانت وجهات النظر، تراجع التأثير بسبب المنافسة مع مؤسسات خاصة من ناحية، والأهم منافسة كل المؤسسات الصحفية، عامة وخاصة، مع منصات صحفية أخرى غير ورقية ومطبوعة.

الإشكالية الكبرى فى تحرير الموضوع هى تحديد الهدف القومى من وجود المؤسسات الصحفية، والكيفية التى يتم بها تحديد مدى النجاح فى تحقيق هذا الهدف أو الأهداف؟ وبصراحة فإن من شارك فى مجالس إدارات الصحف القومية كعضو أو كرئيس مجلس إدارة، واجهته قضية عما إذا كانت المنظومة كلها ذات طبيعة اقتصادية، أو أنها ذات طبيعة خدمية. وببساطة هل هى مثل الشركات العامة والبنوك والتأمين، وكلها تقدم خدمات أو منتجات، وفى كل الأحوال ينظر لها من خلال المنفعة والمكسب والخسارة؟ أو أنها خدمة مثل التعليم والصحة والثقافة التى على الدولة أن تقدمها لمواطنيها، وأن تستخدمها فى الدفاع عن المصالح والقيم الوطنية العليا للدولة، فتصير الصحافة مثل الإعلام أو الدبلوماسية أو قوات الأمن. الحالة الأولى تتناقض مع الواقع حيث تواجه المؤسسات صعوبات جمة فى تحقيق التوازن الاقتصادى للمؤسسات على ضوء ظروف موضوعية وتتعلق بالسوق الحالية للصحافة وأوضاع المؤسسات الصحفية، والحالة الثانية تتناقض مع الطبيعة المهنية الصحفية ذاتها التى تفترض الاستقلال عن السلطة السياسية للدولة، وهو ما أعطاها يوما ما اسم «السلطة الرابعة» التى يقع عليها مهمة إنارة الطريق أمام السلطات الأخرى والمواطنين أيضا. وفى حالتنا فإن الدستور المصرى كفل بوضوح حرية الصحافة واستقلالها، ولكن ما بقى معلقا هو كيف يكون الاستقلال، بينما لا تستطيع الصحف تمويل نفسها؟

الإشكالية الأخرى والتى لا تقل أهمية، أنه لا توجد مرجعية دولية للحالة المصرية يمكن القياس عليها، ففى حالة البنوك على سبيل المثال فإنه يمكن الرجوع دوما لما يسمى «قواعد بازل» التى يمكن تكييفها حسب الواقع الموجود فى كل دولة؛ وفى أمور أخرى تكون المرجعية اتفاقيات دولية أو قانون دولى أو اتفاق خاص مع صندوق النقد الدولى على سبيل المثال. فى الصحافة فإنه توجد قواعد عامة لها علاقة بالمهنة، وتنظيم العلاقة ما بين الإدارة والتحرير، وما بين الحريات العامة والأخرى الخاصة؛ ولكن فى الحالة المصرية فإن أمورا كثيرة ملتبسة ما بين الصحافة والمؤسسات العامة المنظمة لها، وما بين الصحافة والإعلام بشكل عام، وبين كليهما والنقابات المنظمة للمهنة. الحالة المصرية فيما أعلم فريدة، وجديدة، وسوف تحتاج جهدا كبيرا لوضعها فى منظومة متسقة مع ذاتها.

الإشكالية الثالثة أن المؤسسات الصحفية ليست متماثلة مع بعضها البعض لا من حيث الحجم ولا من حيث الحالة الراهنة؛ فهناك مؤسستان فقط فيهما قدر لا بأس به من المناعة الاقتصادية بحيث إنهما يعتمدان فى القدر الأكبر من الإنفاق على مواردهما الذاتية، ولديهما مكونات إعلانية وتوزيعية وطباعية تجارية؛ وبشكل ما فإنهما يمثلان شركات اقتصادية متكاملة الأركان، ولكنهما يمران بفترة من عدم التوازن الاقتصادى الذى تتدخل الدولة لتصحيحه. باقى المؤسسات الصحفية سقطت مناعتها الاقتصادية منذ وقت طويل بحيث باتت تعتمد اعتمادا كليا فى تشغيلها وأجور العاملين فيها على الدولة، ولم تكن هذه الحالة وليدة مرحلة ما بعد الثورات، وإنما هى حالة سابقة عليها. علاج هذه الإشكالية ربما يكون ممكنا بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية تستفيد من الأصول الكثيرة للمؤسستين الأوليين، التى تحولها إلى مؤسسات إعلامية متكاملة الأركان، وفى الحالتين تعيد التوازن الاقتصادى والمهنى لكليهما. باقى المؤسسات يمكن دمجهما فى مؤسسة إعلامية واحدة كبرى تضم أفضل ما فى هذه المؤسسات من مطبوعات وأصول بحيث يكون للدولة المصرية فى النهاية ثلاث مؤسسات إعلامية كبرى ومؤثرة فى الداخل والخارج. مثل هذه التجربة حدثت من قبل عندما جرى دمج شركات التأمين المصرية العامة فى شركة واحدة عملاقة هى شركة مصر للتأمين باتت لها القدرة على المنافسة وإدارة الأصول الخاصة بها فى السوق المصرية والخارجية.

الإشكالية الأخيرة ربما تكون الأكثر تعقيدا من كل ما سبق، لأنها تتعلق بالمنظومة الصحفية كلها، العام منها والخاص، فرغم أن الدولة مشغولة ومعنية بالمؤسسات الصحفية العامة، والتى كانت تابعة لمجلس الشورى قبل الثورة الأولي، وأصبحت تابعة للمجلس الأعلى للصحافة بعدها، والآن فإنها تابعة للهيئة الوطنية للصحافة، والمجلس الأعلى للإعلام، فإن الحقيقة التى لا يمكن تجاهلها هى أنها جزء من منظومة أكبر تشمل ليس فقط ما هو خاص، بل أيضا ما هو دولى وعالمي. المهمة فى النهاية ثقيلة وتحتاج الكثير من التفكير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف