الأهرام
جمال عبد الجواد
الجيش والدولة والثورة فى يناير ويونيو
سيدخل الثلاثون من يونيو التاريخ المصرى باعتباره نهاية مرحلة الانتقال المضطرب التى بدأت فى الخامس والعشرين من يناير، وباعتباره الحدث التأسيسى لنظام الحكم الذى سيطبع السياسة والاقتصاد والمجتمع فى مصر بطابع يختلف عما عرفته مصر خلال العقود السابقة.

لقد أجهزت ثورة يناير على نظام حسنى مبارك الذى كان نهاية لمرحلة بكل المقاييس. وضع نظام مبارك البلاد فى مفترق طرق، فكان عليها إما أن تتقدم فى اتجاه نظام رأسمالى تقوده طبقة رجال الأعمال المدنيين، أو أن تذهب فى اتجاه نظام إخوانى يدخل بالبلاد مرحلة جديدة من القطيعة الأيديولوجية مع العالم، والصراعات الأيديولوجية فى الإقليم.

البقاء هو الأولوية رقم واحد لأى نظام سياسي، والخامس والعشرون من يناير هو الدليل على إخفاق نظام مبارك. فشل مبارك قابله نجاح شبان اليسار والليبراليين، الذين وظفوا ما أتيح لهم من مساحات للتعبير الحر لتنظيم أنفسهم، ولتعبئة الناس للخروج ضد النظام، فكانت النتيجة هى الخامس والعشرين من يناير، والذى هو أكبر نجاحات اليسار والليبراليين، وآخر نجاحاتهم أيضا. تصدر اليسار والليبراليون المشهد السياسى لأيام قليلة بعد الخامس والعشرين من يناير، عندما تسلم الإخوان زمام القيادة، محولين اليسار والليبراليين إلى الخلفية الموسيقية المصاحبة لصراع شرس على السلطة.

أطلقت ثورة يناير صراعا حادا على السلطة، وهذا أمر طبيعي، فسؤال السلطة هو السؤال الأساسى فى أى ثورة، وهذا هو ما علمه الثورى الشيوعى فلاديمير لينين لأتباعه، وإن كان تلاميذه فى بلادنا لم يتعلموا الدرس جيدا. بينما نجح اليسار والليبراليون فى إشعال الثورة، فإنهم فشلوا بجدارة فى طرح سؤال السلطة، فحولوا أنفسهم إلى جماعات منعدمة الصلة بالصراع السياسى الأساسى الدائر فى البلاد. تفاخر الشبان من اليسار والليبراليين بأن كل واحد منهم هو قائد لنفسه، وأنهم جماعات لا رأس ولا قيادة لها، بينما كان هذا بالضبط هو سبب إخفاقهم فى التحول إلى رقم مهم فى معادلة الصراع على السلطة. انشغل شبان اليسار والليبراليين بتنميق الشعارات والتنظير للتطورات بينما كانت جماعة الإخوان، ومن خلفها تحالف إقليمى ودولى كبير، تحسب بدقة كم موقع وضعت عليه يدها، وكم من مفاصل الاقتصاد والدولة وقع تحت سيطرتها، وكم لديها من حلفاء الداخل والخارج الضروريين للاستيلاء على السلطة.

فشل اليسار والليبراليون، ووصل الإخوان للحكم، وانفردوا به، فأثار ذلك رد فعل شعبا قويا، وخروج جماهيرى غير مسبوق فى الثلاثين من يونيو، من أجل إنقاذ الأمة من أكبر جريمة اختطاف سياسى فى تاريخها.

لعب الجيش المصرى دورا رئيسيا فى ثورتى يناير ويونيو، ولولا هذا الدور لكان كل شيء على أرض مصر مختلفا تماما عما هو عليه الآن. حافظ الجيش المصرى على تماسكه، وحافظ قادته على رباطة جأشهم، رغم الضغوط الهائلة التى أطلقتها التطورات الثورية السريعة. ظل الجيش المصرى مؤسسة موحدة، ولاؤها للوطن، وليس لدولة أجنبية، أو طائفة، أو فصيل أيديولوجي، فحافظ الجيش على وحدته، وحافظ لمصر على وحدتها وتماسكها. حافظ الجيش المصرى على موقعه باعتباره الركيزة الأساسية للدولة الوطنية الحديثة الموحدة، بينما تفكك الجيش فى ليبيا إلى شراذم أيديولوجية وجهوية متصارعة، وتحول الجيش فى سوريا إلى فصيل طائفي. تخلى الجيش عن طبيعته الوطنية الموحدة فى سوريا وليبيا وهو ما يهدد الوحدة والتكامل الإقليمى فى هذين البلدين، وهو المصير المخيف الذى تجنبته مصر بفضل تماسك جيشها تحت ضغط التحولات الثورية.

فى الثلاثين من يونيو لعب الجيش المصرى دورا مشابها للدور الذى لعبه فى الخامس والعشرين من يناير. فى الخامس والعشرين من يناير انحاز الجيش للجماهير الثائرة، وأجبر الرئيس الأسبق مبارك على التنحى عن الحكم، وهو نفس ما فعله الجيش بالضبط بعد ذلك بثلاث سنوات. دور الجيش فى استكمال ما بدأته الجماهير المحتجة على حكم الإخوان فى 2013 هو تكرار لما فعله الجيش فى عام 2011 عندما أجبر حسنى مبارك على التنحي. الشرعية التى أسسها الجيش فى 2011 هى ما تم توظيفه بعد ذلك فى 2013 لتحقيق الهدف نفسه، أى استكمال ما بدأته الجماهير المحتشدة. عندما هتف الناس فى يناير بأن «الجيش والشعب إيد واحدة»، فإنهم أسسوا أيضا لما حدث بعد ذلك بعامين فى يونيو.

نجح الخامس والعشرون من يناير فى إسقاط نظام مبارك، لكنه لم ينجح فى تأسيس نظام سياسى بديل، وهذا بالضبط هو ما نجح فيه الثلاثون من يونيو. أسس الثلاثون من يونيو نظاما سياسيا يحتفل هذه الايام بعيد ميلاده الرابع، وهى فترة كافية لتبلور ملامحه. مشهد قائد الجيش وزير الدفاع عبد الفتاح السيسى وهو يلقى بيان الثالث من يونيو، وقد جلس خلفه قادة الجيش، والقضاء، وممثلو المؤسسات الدينية إسلامية ومسيحية، ورموزا سياسية ليبرالية ويسارية وسلفية؛ عكس هذا المشهد طبيعة التحالف الذى نجح فى خلع الإخوان من الحكم، وطبيعة العلاقة بين أطرافه. لم يتصدر الجيش المشهد فى يناير، لكنه أتاح المجال واسعا لتعاون السياسيين المدنيين وتنافسهم. كانت للمجلس العسكرى أخطاؤه وحساباته، لكن السياسيين المدنيين من إسلاميين ويساريين وليبراليين هم من فشل فى التوافق، وهم من اختار الوقوع فى كل حفرة صادفتهم على الطريق.

انكشاف الهشاشة السياسية للقوى المدنية بعد ثورة يناير هو ما فرض على الجيش تصدر المشهد السياسى فى مرحلة ما بعد يونيو. الجيش الوطنى يقود مؤسسات الدولة الوطنية، من قضاء وهيئات دينية، لتعويض احتجاز النمو المزمن الذى تعانيه القوى السياسية. ضعف القوى السياسية وعدم تبلور القوى الاجتماعية منح مؤسسات الدولة حرية واستقلالا كبيرا فى إدارة شئون البلاد، سعيا لتحقيق المصالح الوطنية بعيدة المدى، والأكثر استدامة، والمتعالية فوق مصالح هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك، أو هذا الفصيل السياسى أو ذاك. إنه نفس الاستقلال الذاتى وحرية الحركة الواسعة التى تمتعت بها دولة يوليو 1952، لكن دون النوازع الشعبوية التى أدخلت نظام 1952، وأدخلتنا معه، فى أزمات أجهضت التجربة وأهدرت الفرصة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف