الأهرام
محمد ابو الفضل
قطــر من الإيحاء بالتفاوض إلى السلبية
المنهج الإعلامى الذى تبنته قطر منذ اندلاع الأزمة معها قام على إنكار جميع الاتهامات التى وجهت إليها، والهجوم على الدول العربية الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) ومحاولة تفريغ الاتهامات من المضمون الذى يدين الدوحة فى مسألة دعم الإرهاب والعنف والتدخل فى شئون هذه الدول.

الطريق الذى سارت عليه آلة الأدوات الدبلوماسية، مشى أيضا على منهج سياستى الإنكار والهجوم، وعندما تيقنت الدوحة أن الموقف المناهض لتصوراتها وممارساتها متماسك ومن الصعب تفتيته، بدأت تتخلى عن جوانب من سياستها الفاشلة وراحت تعترف صراحة ببعض الاتهامات، وتلجأ إلى أسلوب الدفاع عن مواقفها ومغالطاتها.

الاعتراف والتخلى عن الهجوم، ظهرت لكل منهما ملامح لا تخطئها العين، وصرح الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثان وزير خارجية قطر فى روما أخيرا ، بأن بلاده »فى ذيل الدول التى تدعم الإرهاب«، وهى خطوة مهمة تمهد لخطوات أكبر.

بصرف النظر عن مكانة قطر فى المقدمة أم الذيل، فى النهاية اعترفت بأنها قدمت دعما للإرهاب، وهذا غاية المراد الذى يؤكد صواب موقف الدول الأربع، وأن سياسات الدوحة تمثل تهديدا حقيقيا على أمنهم.

التخلى عن الإنكار، كشفته تصرفات عدة تصب فى خانة الاعتراف، منها اختفاء كثير من الرموز الإسلامية على شاشة قناة الجزيرة، وتقليص مساحة الاهتمام بجماعات العنف والإرهاب فى دول مثل سوريا والعراق وليبيا، ومغادرة عدد من القيادات الإسلامية الدوحة بلا ضجيج، وهى كلها استجابات ضمنية لجوهر المطالب العربية.

بالتزامن مع هذه التوجهات، تفرغت قطر للدفاع عن رؤيتها بدلا من الهجوم على الدول الأربع، ثم انتقلت إلى مربع ثالث يشير إلى الإيحاء بالتفاوض، عقب تقديم قائمة تتكون من 13 بندا عبر الوسيط الكويتي، ومطلوب من قطر تنفيذها كاملة، وحاولت تفنيد هذه المطالب وجميعها يدور فى فلك ضرورة تصحيح سياستها الإعلامية وتصويب أخطائها الأمنية والتخلى عن كثير من رؤاها السياسية.

الرد الذى قدمته الدوحة بشأن منحها مهلة لمدة 48 ساعة إضافية، بعد انتهاء مهلة الأيام العشرة الأساسية، أوضح لأى درجة خابت ظنون قطر فى تفكيك موقف الدول الأربع، وأكد أن سقف الرهان على بعض الدوائر الإقليمية والدولية بدا أعلى من الاستجابة، وثبت فشل اللجوء إلى التسويف كأسلوب للتعامل مع قضايا مصيرية.

فى المجمل كانت هناك تنازلات قطرية متدرجة منحت الدول التى قدمت وقائع وشواهد عدة ثقلا سياسيا ورواجا معنويا ومصداقية إعلامية، ضغطت على الدول الداعمة للدوحة لتغيير موقفها، وفرضت على المترددين حسم رؤيتهم لمصلحة الاحتفاظ بمسافة أكبر بعيدا عنها.

الدروس التى تنطوى عليها الأزمة كثيرة ومتشعبة، وسوف يتم التوقف عندها باستفاضة من قبل دارسى العلوم السياسية والمهتمين بإدارة الأزمات، لأنها مست عصب ثوابت راسخة فى أذهان دوائر متعددة، ودللت على عدم جدوى سياسة الإنكار وأنها لن تقلل من الخسائر أو تفت فى عضد الخصوم، كما أن الدوحة اضطرت للاعتراف بأخطائها وأخفقت سياسة عدم تقديم التنازلات فى حمايتها، وهى الآن قدمت حزمة منها ومرجح أن تستجيب لأخرى قريبا.

الالتزام بالتعامل مع الأنظمة الشرعية، من العبر التى يمكن استخلاصها من الأزمة، فالقنوات الخلفية التى فتحت مع حركات متطرفة وجماعات إرهابية فى دول مختلفة، حققت قدرا من التفوق النسبى لقطر فى وقت سابق، لكنها أصبحت وبالا عليها حاليا، وتحول التحالف مع جهات خارج الشرعية فى بعض الدول من نعمة إلى نقمة.

المشكلة كانت فى صعوبة التفرقة لدى بعض الدول بين جماعات المعارضة التى تحظى بشرعية قانونية وتلك التى تعمل خارج هذا الإطار، والآن من الممكن إعادة الاعتبار للأولي، والدول التى تحايلت وقدمت دعما لجماعة الإخوان أو غيرها، بوصفهم من الفصائل السياسية (خارج الشرعية)، لن تنطلى حججها على كثيرين، فهناك قناعة جديدة بأن هذه المسألة تترتب عليها تداعيات سياسية وأمنية تدفع تكلفتها الدول التى تتبنى هذا المنهج، والحالة القطرية ثم البريطانية كاشفتان فى هذا الإطار.

كما أن الإعلام الذى يمكن اعتباره سلاحا لتحقيق أغراض معينة، يمكن أن يتحول إلى سلاح مضاد ومدخل لتلقى الضربات، فعدد كبير من الوثائق والأدلة التى قدمتها مصر وتثبت تورط قطر فى دعم الإرهاب، جاء من مواد أذاعتها شبكة الجزيرة فى أوقات متباينة، وفيها يظهر التحريض على العنف داخل مصر واضحا، كما أن الأفلام التى قدمت عن الجيش، وهى مليئة بالمغالطات، كشفت لأى حد بلغ الاستهداف القطرى مداه فى خلط الأوراق.

من هنا يتبين أن دعم العنف أو الاتهام به كفيل بخسارة أى معركة، لذلك لم تتمكن الدوحة من الصمود أمام الهجوم الذى تعرضت له وهو مليء بالأدلة، ولم تفلح جميع الحيل فى إبطال مفعوله، ورسخ فى وجدان وعقل كثيرين أن الارتباط بالإرهاب أو التناغم معه عملية خطرة يدفع أصحابها أثمانا باهظة.

لعل ما يجرى من إعادة نظر فى مواقف دول كثيرة بشأن العلاقة مع حركات إسلامية، متشددة أو تزعم أنها معتدلة، يعزز رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى التى عرضها فى قمة الرياض فى أبريل الماضي، عندما حذر الدول الداعمة لهذا التيار، بأطيافه المختلفة، من مغبة تصرفاتهم، وهو ما يؤكد أن الصمت الذى كان خيّم على بعض الدول فى الماضى لم يعد مقبولا فى الحاضر، ويدخل فى عداد التأييد الضمني، ولن يستطيع أحد تحمل تبعاته.

مهما تكن نتيجة اجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والإمارات والبحرين فى القاهرة أمس، وآلية التعامل مع الرد السلبى القطري، فالأزمة لن تتوقف ما لم ترضخ الدوحة للمطالب العربية كاملة، لأن هناك رؤية إستراتيجية متماسكة لم تتزحزح أمام المناورات السياسية والألاعيب الإعلامية طوال الأيام الماضية.

بالتالى فالمعطيات القطرية المباشرة ستحدد نوع الخطوة التالية خلال الفترة المقبلة، لأن الدعاية السياسية أو محاولات القفز فوق الأزمة، بالتعاون مع تركيا أو التلويح بالالتصاق مع إيران، لن تجدى أبدا، وكلاهما تعمل لمصالحها وليس دفاعا عن الدوحة ومواقفها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف