نبيل عبد الفتاح
العقل المغلق والأفكار المتطرفة
التطرف، والتطرف العنيف، والإرهاب، مصطلحات شائعة ولكنها لا تزال تتسم بالغموض وعدم الدقة التعريفية والدلالية لهذه المصطلحات التي أصبحت علامة على عقود عديدة منذ ظهور الجماعات الإسلامية السياسية، وممارستها لأشكال من العنف المادي والرمزي ونظرتها الأحادية والإقصائية لمن هو المسلم من وجهة نظرها التأويلية والفقهية الوضعية، ومن هو الكافر، الزنديق، أو الفاسق.. إلخ؟ ومن هو من غير المسلمين من الذين يدينون بالمسيحية واليهودية كأديان سماوية؟ ومن هم خارج هذه الدائرة من البوذيين، والسيخ، والهندوس، والبهائيين، وشهوديهوا ... إلخ؟ تراث من الكتابات الفقهية التقليدية يستعاد بعضها وتعاد تلاوته، أو إعادة تأويلها بما يتماشى مع فقه وأيديولوجيا هذه الجماعات السياسية الإسلامية؟ مفردات تبدو محورية في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، بل وتمددت في الإعلام الرقمي، ووسائل الاتصال متعددة الوسائط، والتي تشكل مكونات ومعالم وسمات الثورة الرقمية الهائلة. عشرات ومئات التعريفات التي تقدم لهذه المصطلحات على التداخل فيما بينها، على نحو يجعل مقاربة ظواهر التطرف، والتطرف العنيف، والعنف، والإرهاب، صعبة على الرغم من آلاف الكتب التي نشرت باللغات المختلفة حول هذه الموضوعات، والظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والرمزية التي تعكس في بعض أو غالب مكوناتها بعض معان متداولة لهذه المصطلحات المترعة بالغموض والسيولة، بحيث بات بعضهم يطلقها على عديد من الأفكار والسلوكيات والظواهر. من ناحية أخرى تم إنتاج عديد من الدراسات النفسية حول هذه الظواهر، واتسم بعضها بالتعميم، ومن ثم افتقرت إلى الجدوى من ورائها، واستخلاص بعض النتائج التي يمكن أن يستفاد منها في الوقاية من التطرف، أو مكافحة الإرهاب، سواء في السياسات التعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية والدينية، خاصة في بعض البلدان العربية، وعلى رأسها مصر، وترك أمر مواجهة التطرف والتطرف العنيف والإرهاب إلى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وتناسى بعضهم أن التطرف ومحفزات العنف والإرهاب، هي نتاج للأفكار التي تؤدي إلى التطرف العنيف وتدفع نحو الانضمام إلى الجماعات الإرهابية باسم تأويلات دينية تدفع لممارسة العمل الإرهابي، وعملياته المختلفة. دراسات توصف بأنها أكاديمية -كأطروحات جامعية في الغالب- وتنتهي في الغالب بتوصيات، وأفكار غامضة، وبعضها يتسم بالسطحية والإنشائية. نادرة في المكتبة العربية المقاربات العلمية السوسيولوجية والنفسية الجادة للتطرف، والتطرف العنيف -وهو مصطلح يروج الآن في أدبيات الأمم المتحدة ومؤتمراتها- والإرهاب، وذلك على الرغم من معاناة الدول العربية ومجتمعاتها، ومصر من الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية التي تنتج الأفكار المتطرفة، وأشكال التطرف العنيف، ناهيك بموجات من العمليات الإرهابية. لم ندرس -إلا قليلا- النظام الفكري/ الأيديولوجي/ الفقهي لجماعات من مثيل الإخوان المسلمين، والاتجاهات المختلفة السائدة داخلها في كل مرحلة تاريخية، وماهية الأفكار المسيطرة، في ظل حسن البنا المرشد العام الأول، والتنظيم الخاص على نحو مكتمل، أو دراسة مجموعة سيد قطب، بل إن أفكار سيد قطب الأيديولوجية والتأويلية في ثلاثيته الشهيرة: هذا الدين، والمستقبل لهذا الدين، ومعالم في الطريق، لم تدرس إلا في بعض الأعمال البحثية المحدودة عن سيد قطب وتطوره الفكري. في مراحل ما بعد سيد قطب وتأثر عناصر قيادية بتوجهاته الفكرية، في تنظيم 1965، وطبيعة الجدل الذي أثير في السجون وقتها، ولماذا انتشرت هذه الأفكار، ولماذا أصدرت الجماعة كتاب "دعاة لا قضاة" باسم المستشار حسن الهضيبي؟ كتابات مبتسرة وغير مكتملة عن هذه المراحل، حتى مرحلة السادات ومصالحاته مع الجماعة في عام 19744، ثم خلافاته، ووضعهم السياسي والاجتماعي في ظل مبارك ودمجهم الجزئي في البرلمان، وتمثيلهم داخل النقابات المهنية، وتمددهم في بعض أجهزة الدولة، أو بنائهم لشبكات اجتماعية وظفوها لخدمة استراتيجية التمدد القاعدي في المدن والأرياف، أو دخولهم إلى دوائر أجهزة الدولة البيروقراطية، والذي ساعدهم على هيمنتهم على مسار المرحلتين الانتقاليتين، الأولى والثانية، في أعقاب انتفاضة 25 يناير 2011 الجماهيرية الكبرى ووصولهم إلى سدة السلطة -البرلمان ورئاسة الجمهورية- مع بروز دور السلفيين السياسي. لا توجد دراسات ذات وزن -إلا استثناءً- للبناء التنظيمي للجماعة، ولا دراسات حول خطابات قادتها الكبار، إلا سيد قطب وهي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ثمة طلب سياسي رسمي لتجديد أو إصلاح الخطاب الديني، ولا توجد دراسات في العمق لخرائط الخطابات السياسية للجماعات الإسلامية السياسية، والجماعات السلفية وتحليل لبنياتها الفقهية والتأويلية، وأطرها المرجعية التقليدية أو مصادرها في كتابات منظريها المعاصرين. ثمة حالة من الغموض، يتحدث عنها الجميع -رجال دين وسياسة ومثقفون وإعلاميون- وكأنهم يعرفون معالمها وأفكارها وسماتها ومرجعياتها، وهم في حقيقة الأمر يتحدثون عن كائنات غامضة هي الخطابات الدينية المتطرفة، أو العنيفة أو الإرهابية. من ثم لا نجد سياسات مدروسة وفعالة للوقاية من التطرف، والإرهاب، والعنف إلا السياسة الأمنية، وتغيب أدوار سياسة السياسة، والسياسة الدينية، والسياسة التعليمية والسياسة التربوية، والسياسة الثقافية، والسياسة الإعلامية. من هنا تنتشر الأفكار المتطرفة والإرهابية في بيئات تحفز على التمدد، ولا تجد حزمة من السياسات والأدوات التي تحمي المجتمع، و"الفرد" من مخاطرها!
أحد أهم عوامل إنتاج واستهلاك الأفكار المحفزة على التطرف العنيف والإرهاب تتمثل في سيادة العقل النقلي، والعقل المغلق، الذي يعاد إنتاجه من خلال نظم التنشئة الاجتماعية والدينية والتعليمية والسياسية، التي تعتمد على الحفظ والتلاوة للنصوص والآراء الفقهية الدينية، أو غيرها من العلوم الدينية أو الاجتماعية أو الطبيعية. الحفظ والتلاوة للمحفوظات وإعادة استذكارها في التعليم، وفي نمط تدريس وتلقين الآراء الدينية الفقهية الوضعية حول الدين، تتحول إلى يقينيات على الرغم من كونها آراء بشرية، وبمرور الوقت أصبحت آراء بعض الفقهاء أو تابعيهم أو تابعي التابعين، تبدو وكأنها ذات هيبة ومعصومية وشبه قداسة، ولا يقبل بعضهم الخلاف في الرأي أو التأويل أو التفسير مع هذه الآراء الفقهية أو التفسيرية وقائليها وكاتبيها! هذا النمط من التنشئة الدينية والتعليمية تؤدي إلى تعزيز الثقافة النقلية، وإلى وضع سواتر حول التفكير النقدي والحر، والحيلولة دون انفتاح العقل على المغامرة الفكرية، وعلى طرح الأسئلة، أو إعادة مناقشة الموروث الفقهي أو التأويلي وطرحه للمساءلة العقلية، أو إزاء المنهج التاريخي درسا وتحليلا وتأويلا. من هنا كان العقل النقلي هو قاعدة وبيئة إنتاج فكرية للعقل المغلق الذي لا يقبل المساءلة أو الحوار، لأنه إقصائي ويزعم لذاته وللآخرين أنه يحمل ويملك الحقيقة المطلقة. العقل المغلق تبسيطي في ثنائياته الضدية حول معايير الحلال والحرام، والصح والخطأ.. إلخ. من ثم يرفض التفكيك والتحليل والنقد، ويميل إلى إصدار الأحكام الأخلاقية على الأفكار والظواهر والأشخاص! من هنا نحتاج إلى درس العقل المصري وتفكيكه وتحليله ونقده، كمدخل لفهم الأفكار المتطرفة والعنيفة والإرهابية، وخطاباتها الدينية، ونظائرها وأشباهها! نحن أمام ظواهر تحتاج إلى درس وتحليل موضوعي لها ولسياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، حتى نستطيع أن نبلور سياسات لمواجهة هذه الجماعات، وأفكارها العنيفة والمتطرفة، ومكافحة التطرف في سياقاتها. كثير من الترداد لمفردات التطرف والتطرف العنيف، والإرهاب، والعنف الرمزي.. إلخ، ولكن لا تزال معرفتنا بهذه المصطلحات وتجسيداتها وتعبيراتها تتسم بالغموض والتشوش والتداخل، ومن ثم لا تزال سياسات الوقاية والمواجهة تفتقر إلى الفعالية والإنجاز في التربية والثقافة والتعليم المدني والديني والإعلام. نتحدث كثيرًا عن عديد من المفردات والمصطلحات والأفكار، وكأننا نعرفها في حين أننا لا نكاد نعرف شيئًا عن ماذا نتكلم! وللحديث بقية