أشرف الصباغ
«لا تطفئ الشمس».. بين التناقضات الإنسانية والتعنت الاجتماعي
عندما كتبنا في المرة الأولى عن مسلسل «لا تطفئ الشمس»، رؤية وسيناريو وحوار تامر حبيب، وإخراج محمد شاكر خضير، تحدثنا حول «الفن والحياة»، وعن عمل فني حِرَفي متكامل يلتزم بقوانين وجماليات الفن على مستوى الكتابة والإخراج والأداء، والموسيقى. ولكن يبدو أننا نقع، كالعادة، في فخ التأويلات الساذجة أو المغرضة، أو ربما الحمقاء التي ليس لها علاقة لا بالفن ولا بالحياة، بقدر علاقتها الوثيقة بالنفاق الاجتماعي والديني من جهة، والجهل بأبجديات المعرفة عموما، والفن والثقافة على وجه الخصوص من جهة أخرى. الفخ الذي نقع فيه، تم نصبه منذ عشرات السنين. وهو فخ متعلِّق بمفاهيم الأخلاق والدين والعادات والتقاليد التي يتم طرحها وفق رؤى ساذجة أو انتهازية أو منافقة. فنحن إلى الآن لا نستطيع الفصل بين شخصية الممثل أو الممثلة في الواقع وفي الفن، وليس لدينا القدرة على مواجهة لا الواقع ولا الفن. وبالتالي، ليس لدينا أي حائط صدّ سوى الأخلاق الكاذبة، والدين السطحي، والعادات والتقاليد التي نستخدمها لممارسة أكبر قدر من الرذيلة ولكن في الخفاء. مسلسل «لا تطفئ الشمس» هو مسلسل عن الحياة بشكل عام، وعن حياتنا بشكل خاص. مسلسل قرر فريقه (بداية من اختيار الرواية، ثم السيناريو والحوار، ثم الإخراج، ونهاية بأداء الممثلين على خلفية موسيقى تشكِّل أحد أهم محاور هذا العمل) أن يدخل إلى عرين الأسد، وأن يُبحلق هو أيضا في وجه الغول ليقول له: إن عينيك ليستا حمراوين فقط، بل أنت أعمى في الأساس. هذا المسلسل المهم فنيا واجتماعيا «شُيِّد» بأرقى الأدوات الفنية، ووفق نسق فني – اجتماعي على أعلى مستويات الحِرَفية والفهم والإدراك. لقد غامر هذا المسلسل بالخروج من مأزق «الشعارات الضخمة» و«الوعظ والتعليم» و«السياسة» و«الحوارات المجانية والرغي المصري العظيم». إنه ببساطة قطعة فنية حول الناس والحياة، حول «الاحتمالية والتوقع»، حول «الدخول في التجربة» دون أفكار مسبقة، حول «حيرة البشر».. إنه عمل فني حول صيغة «لا أعرف» بكل دلالاتها الحياتية العملية والفلسفية والوجودية، والإنسانية. ولأننا لا نعرف إلى الآن قيمة كلمة «لا أعرف» بمفهومها الحياتي والمعيشي والفلسفي، فنحن أمام معادلة اجتماعية – فنية هابطة تهبط علينا من أعلي لتطالبنا بتوخي الحذر والالتزام بما نعرفه فقط، والدعوة للأخلاق والفضيلة. من الواضح أن الانهيار الفني طوال سنوات عديدة في مصر، والذي ترافق مع جملة من الانهيارات الأخرى على رأسها انهيار المفاهيم ومنظومة العلاقات الاجتماعية، جعلنا نعيش في عالم وهمي، أو مُتَخَيَّل، نتوخى فيه الأخلاق الكاذبة والفضيلة الكاذبة، وأسوأ ما في العادات والتقاليد، وإعلاء قيمة الغث والرخيص، كل ذلك من أجل حماية المجتمع الوهمي من مخاطر وتهديدا وهمية تتعلق بطبيعته «المتدينة جدا» و«الأخلاقية جدا جدا». وبالتالي، أصبح من الطبيعي أن نحاكم الأعمال الفنية، لا أن نعيد قراءتها أو «نَتَفَرَّج» عليها كبقية خلق الله.. أن ننظر إلى الأعمال الفنية من منظور التعاليم الدينية، لا من منظور الفن.. أن نتعامل مع الأعمال الفنية انطلاقا من أرضية أخلاقية دينية، لا من النوازع الإنسانية الطبيعية وتشابكاتها وتعقيداتها وأغوارها السحيقة. يبدو أن هذا قَدَرنا وقَدَر مجتمعنا، وقَدَر فننا المصري الذي يمتلك كل الأدوات الجيدة والقادرة على صناعة فن جيد، ولكننا مع ذلك نهدر كل تلك الأدوات والصيَغ والقدرات والطاقات بسذاجة وحماقة في آن معا. إنه قدر مصر كلها، على ما يبدو! إننا نريد أعمالا فنية نعرفها مسبقا، ونعرف كيف ستسير الأحداث فيها وإلى ماذا ستنتهي.. نريد أعمالا فنية تبكينا وتضحكنا بصرف النظر عن منطق الحياة ومنطق الفن، بل والمنطق المجرد أيضا.. نريد أعمالا فنية زاعقة ومليئة بالشعارات والنصائح والوعظ.. نريد أعمالا فنية تتناسب مع «أخلاقياتنا الرفيعة» و«ديننا الحنيف أو تديننا المزيف».. إننا لا نريد أعمالا فنية راقية لأنها مجهدة ومزعجة.. لا نريد أعمالا فنية مغامِرَة تكشف عن أعمق المناطق المظلمة في أرواحنا.. لا نريد أعمالا فنية تُذَكِّرُنا بقلة حيائنا وضعفنا وهفواتنا ونزقنا وسفالاتنا.. لا نريد أعمالا فنية تكشف الغطاء عن المسكوت عنه وتعمل على تجميل عورانا ومساوئنا وتجعلنا الأفضل والأجمل والأحسن والأرقى.. لقد تعوَّدنا على «الفن الكاذب» لدرجة أن أذواقنا باتت أسيرة الانحطاط وانعدام الإحساس، بالضبط مثلما تعوَّدنا على «العلم الكاذب» و«الأخلاق الكاذبة» و«الأحاسيس الكاذبة» و«الكلام الكاذب». ومن شدة التعوَّد، تحوَّلنا إلى كائنات مصابة بفقدان الذاكرة والإحساس بالجمال والتعامل المنطقي والعقلاني مع الظواهر المحيطة والمنجز الإنساني.. تحولنا إلى كائنات مضحكة تشبه الدُمَىَ والرسوم الكاريكاتورية. مثل هذه الكائنات الفاقدة للذوق والإحساس والمنطق، لا يمكنها أن تتأمل أو تفكر. إن الجمال في حد ذاته لا يعني أي شىء ولا يملك أي قيمة ملموسة، ولكن الإحساس به يمنحه قيمته الإنسانية، ويمنحنا إنسانيتنا وطبيعتنا البشرية وتكويننا الروحي. وبالتالي، ففاقد الإحساس بالجمال، يفقد أيضا الإحساس بالظلم والمهانة، ويُحْرَم من حاسة «الشم»، أي يفقد التمييز بين الروائح، ويعتقد دوما أن رائحة «المراحيض والخرابات» هي الرائحة الطبيعية. عن أي «ألفاظ خارجة ومسيئة وجريئة» يدور الحديث؟! المسألة ليست في الألفاظ بقدر ما هي في كيفية طرحها، وفي أي سياقات، وتجانسها مع الحوار الدائر. لقد تحوَّلنا إلى «كائنات» ممسوخة. ومن شدة المسخ، صرنا نتعامل مع الأشياء لذاتها والكلمات بحد ذاتها، ونحاكم الآخرين أخلاقيا. وهذه النقطة تحديدا موجودة في صلب المسلسل نفسه، حيث يتم التعامل معها بكشف فاضح وبرقي فني عالي المستوى. أليس هذا غريبا بعض الشيء؟! إنه غريب طبعا، على مجتمع ذكي وخبيث (وأنا هنا لا أسخر من ذكاء وخبث مجتمعنا) ينفر مباشرة عندما يصل الأمر إلى الكشف عن سواءاته وكوارثه وقلة حيائه. المسألة ليست في الألفاظ الخارجة والمسيئة، وإنما في إصرارنا على تسفيه الموضوعات الرئيسية، وتفريغ قضايانا الأساسية من مضمونها، وتحويل كل شىء إلى لا شىء.
عن أي «علاقات مُحرَّمة وخيانات وعلاقات مشينة» يدور الحديث؟! وما معنى كلمات «مُحرَّمة» و«خيانة» و«مشينة» في الفن؟! يبدو أننا بحاجة إلى كتيبة من أطباء الأمراض النفسية والعصبية والعقلية، و«مورستان» كبير يضمنا جميعا! هل وصل بنا الحال، إلى تجاهل ما يحدث في الواقع وفي الحياة، وإغماض العين عن المعاني والدلالات الحقيقية للخيانة والمُحرَّمات والعلاقات المشينة، والتركيز على صورها وتداعياتها في الأعمال الفنية؟! إذن عليك أن «تهبط إلى مصر» بحواريها وأحيائها الشعبية وقراها ونجوعها ونواديها وأحيائها الفخمة وصالوناتها لكي ترى بالضبط ما يجري. وهذا ليس كل شىء ولا يعني أي شىء، إنه فقط الجزء الصغير الظاهر من جبل الجليد الضخم المخفي في عرض المحيط، لأن المسألة أيضا ليسن هنا، وإنما في الأسباب الحقيقية التي أدت لكل ذلك. إن المسلسل لم يعكسها كما هي ولم يصورها بكل تفاصيلها المبتذَلَة والبدائية، وإنما تعامل معها بأدوات فنية راقية ليؤكد للجميع أنهم مكشوفون وعارون تماما، ولا سبيل إلى الإخفاء والتخفي وراء مقولات أخلاقية وسياسية ووطنية جاهزة ومبتذَلَة. يبدو أن الغاضبين والمحتجين مصرون على دفن رؤوسهم في التراب وليس الرمال، مصممون على إغماض العين عن سواءاتهم الأخلاقية وأشد المناطق إظلاما في أرواحهم وأرواحنا جميعا. عن أي «طبيعة شرقية» لمجتمعنا يدور الحديث؟! هل نتحدث عن ما هو كائن أم عن ما ينبغي أن يكون؟ ولماذا هذا التحديد بالذات: «طبيعة شرقية»؟! أليس هذا التوصيف يشبه أيضا التوصيف المضحك: «مجتمع متدين بطبعه»، و«خير أمة أخرجت للناس»، و«نحن الأسبق في كل شىء»، و«لقد علمنا العالم كل شىء»؟! إن المسلسل هنا، يفضح أيضا هذه الفكرة ويعريها، ويعري الذين يرتدونها لستر عوراتهم الحقيقة، وإصرارهم على لعب دور «القواد» أو «الديوث» بدلالاتهما الفلسفية والاجتماعية، وربما السياسية أيضا. عن أي «خمر» يدور الحديث، بينما الكلام عن «الحشيش» أمر عادي تماما؟! وما شأن الخمر، والحشيش أيضا، بأحداث عمل فني؟! هل نريد أن نصور أحداث مسلسلاتنا في المساجد والكنائس؟ وساحات الذكر وأضرحة القديسين وأولياء الله الصالحين؟ هل نريد أعمالا فنية تهتم بتربية الناس ووعظهم، وحضهم على إخفاء الواقع والحقيقة، ووضع أكبر قدر من المساحيق لإخفاء التشوهات؟! إذن أين طبيعة الفن ودوره وأدواته؟! يبدو أننا وصلنا إلى أبعد المراحل انحطاطا من حيث الرؤية والسلوك لنقف بكل بجاحة وسذاجة وجهل لنحاكم الأعمال الفنية من منظور ديني، ونطرح الدين مقابلا للفن، فنشوِّه الاثنين. أما عن «المثلية الجنسية»، فحدِّث ولا حَرَج! لقد تركنا كل أحداث العمل الفني، وأصبحت المثلية الجنسية هي القضية الدينية والوطنية الأولى. ويبدو أن العقدة النفسية (لدى الرجال تحديدا، والنساء بالدرجة الثانية) هي التي تحرِّك البعض في اتجاه التركيز على هذه النقطة. والعقدة النفسية والتاريخية هنا تتوزع على المستوى الشخصي (أي النوع أو الجندر) ودفاع كل شخص عن نوعه، وكذلك على مستوى التاريخ، إذ يسعى هؤلاء إلى ليس فقط إنكار مثل هذه الظواهر أو إدانتها، وفي الوقت نفسه إغماض عيونهم عن أصولها وأسبابها. والأنكى والأمر هنا، أنهم يحاكمونها من منظور الدين والأخلاق، متجاهلين تماما أصولها وتاريخها في تاريخهم هم: تاريخهم الماضي الذين يفخرون به ويسعون لاستعادته. ولكن ما شأن هذا العمل الفني بكل تلك السذاجات والحماقات، والجهل بالفن وأدواته وقوانينه وطموحاته، ودوره الإنساني – الجمالي - الاجتماعي؟! إن مسلسل «لا تطفئ الشمس» يضعنا جميعا أمام أنفسنا، ويعرِّينا تماما، ويغوص في أعمق المناطق وأشدها إظلاما في أرواحنا. ويبدو أنه نجح لدرجة تُشْعِرُ الكثيرين منا بالخجل. وهذه نقطة مهمة، لو نجح فيها المسلسل بالفعل، فهو يشكِّل إضافة فنية وإنسانية إلى مجمل الأعمال الكبيرة التي جعلتنا ولو لمرة واحدة نشعر بالخجل. أي أن هناك أملا بأن نشعر ونحس في المستقبل بالجمال، وبالتالي، نشعر ونحس بالظلم والمهانة أيضا. يبقى فقط أن نعترف، وننحني احتراما، لممثلين استطاعوا أن يؤدوا أدوارهم بِحِرَفِيّة نادرة، وبفهم واسع وعميق لطبيعة أدوارهم من جهة، ولطبيعة المجتمع من جهة أخرى، لدرجة أنهم حولوا هذا العمل من مجرد عمل فني إلى قطعة من الحياة تشبه الألماس الذي لا يشحذه ولا يهذبه إلا مشرط كهذا.