د . رفعت السعيد
والآن أتكلم .. عن «الجماعة -2»
«والآن أتكلم».. هو عنوان مذكرات أستاذى خالد محيى الدين متعه الله بالصحة.. أتيت به تحية لرجل لا تستطيع كل الكلمات أن توفيه حقه. وقبل أن أتحدث عن الجماعة، أستأذن القارئ فى أن أدعوه إلى حفل تعارف على القواعد المؤسسة لعلم التاريخ الأكاديمى ، وأبدأ بالتعريف الإغريقى القديم جدا لكلمة «استوريا» التى أصبحت فيما بعد history ويقول ــ استوريا هو علم التعرف على الوقائع الجديرة بالمعرفة التى وقعت فى الماضى. [وأتوقف أمام كلمتى ــ الجديرة بالمعرفة ــ فكثيرا ما تتخم الدراما إذ تدخل من وإلى باب علم التاريخ بتفاصيل غير جديرة بالمعرفة أى غير مهمة وذلك من أجل الحبكة الدرامية والإمتاع الدرامى. خاصة إذا التزم المؤلف بثلاثين حلقة بالتمام وكل منها ساعة بالتمام فتأتى تفاصيل غير علمية وحوارات هى بالضرورة مصطنعة ولا يمكن التأكد من صحتها، قد تكون متلائمة مع السياق لكنها فى النهاية من صنع المؤلف] أما المبدأ الثانى، فقد حدده لنا أستاذ أساتذة علم فلسفة التاريخ البروفيسير ميشلييه الذى قال: «ينقسم علم التاريخ إلى قسمين أحدهما جميل وهو الثرثرات والادعاءات والتخمينات والقسم الآخر قبيح وهو الحقيقة الأكاديمية.» [وهنا نكتشف أن الدراما أى دراما إذ تتلمس طريقها إلى الواقع التاريخى تجد نفسها ملزمة بإيجاد توليفة متوازنة بين النصفين .. أقول متوازنة لأن هذا اللفظ هو مصدر كل خلاف ، كذلك فإن صياغة النصف القبيح أى الحقيقة تتداخل فيها نوازع شخصية سواء لمصدرها الأصلى أو محققها العلمى أو كاتبها أو المتداخلين، حتى الأكاديميين منهم فى نقد العمل الدرامى. وهكذا شاهدنا نزاعات مفترضة لأنها دخلت فى تماس مع شخصيات وأحداث مختلف عليها. خاصة أنصار هذا الزعيم أو ذاك الذين تلبسوا بولاء متعصب أو حتى مفترض رافضين المساس بمصداقية هذا الزعيم أو ذاك . ناسين أن المصداقية نفسها غير متفق على مقاييسها وأنها أيضا لا تتوافق مقاييسها الأخلاقية مع مقاييسها وممارساتها الفعلية . ويزداد التعقيد تعقيدا عندما يتماس الموضوع المكتوب مع زعيم مهيب كعبد الناصر أو زعيم مهيب أيضاً كمصطفى النحاس وبالقطع هما وغيرهما من الزعماء سامقى الهامات ليسوا ملائكة ولا أنبياء معصومين وإنما انغمسوا فى السياسة بكل ما بها من مناورات وتحايلات وضعف وتآمر وتقلبات وهى نوازع عادية فى أى نفس إنسانية، خاصة إذا ما تعملق الزعيم أو استشعر مسئولية جسيمة عن شعبه أو وطنه أو حزبه.
وتزداد الكارثة كارثية عندما يقتحم موضوع الخلافات المشتعلة بتعصب غير علمى وغير عقلانى أكاديميون كبار يعتبرون من أفضل مؤرخى مصر ليتعصبوا هم أيضاً .. وكمثال دون تفصيل عندما تداخل مؤرخ أكاديمى مرموق واعتاد الجميع على اللجوء إليه فيما يخص الضباط الأحرار فنفى ماهو معلوم بالضرورة قائلاً أن خالد محيى الدين اخترع قصة القسم على المصحف والمسدس نكاية فى خصمه السياسى عبدالناصر.. ناسياً أو متناسياً ان خالد محيى الدين ليس من هذا الصنف وأنه لم يعتبر نفسه أبداً خصماً لعبد الناصر. وكمثال آخر نجد مؤرخا مرموقاً يواجه فى الحوارات بإسمى زغلول وموريس فيلجأ إلى القسم الجميل من التاريخ ليخترع قصة تقول ان عبدالناصر حاول الانفتاح على كل القوى السياسية الفاعلة ليتعرف على ما بها فانضم للإخوان وكان اسمه زغلول وانضم للشيوعيين [منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى حدتو] باسم موريس وأنا كشاهد عيان حضرت استخدام عبدالناصر لهذين الاسمين أقرر وبحزم أن الأمر لم يكن كما تصوره الأخ العزيز المؤرخ الكبير. وهكذا وإلى هذا الحد كان الأمر مربكاً ثم أصبح مربكاً أكثر بتداعيات الصراعات والانتماءات والولاءات المطلقة واعتبار الزعماء ذوى الهامات العالية والكاريزما التى يستحقونها بالفعل وكأنهم ملائكة أو أنبياء فأصبح مسلسل الجماعة -2 فى مهب رياح عاصفة . ونسى الجميع من المتصارعين وهم حسنو النية أنهم قد أصبحوا عبئاً على الحقيقة وأن هذا الخصام العصبى قد انتقل بالمسلسل من عمل درامى كاشف لجرائم الجماعة الإرهابية خاصة فى حلقاته الأخيرة ليصبح بهذه الصراعات غير الحصيفة منقذاً للجماعة من مزيد من كشفها وفضح جرائمها.. لو واجهت الإرهابيين بحقيقتهم قالوا مسلسل كاذب، كذب ضد عبدالناصر وضد مجلس الثورة وضد النحاس .. وهكذا يكون الإرهابيون براءة.
وآتى بعد ذلك إلى الأخ العزيز والكاتب الرائع والمناضل بشجاعة لا يتقنها كثيرون فى معاركه المتتالية ضد الإرهاب والتأسلم والجماعة الإرهابية لأقول له: لا عليك يا أخى العزيز فقد أعملت محبتك لمصر وأعليتها فوق كل شىء وخضت بشجاعة لا يبرزها كثير من مخالفيك ولا ينوون إبرازها، معركتك القلمية يجب أن تضع فى اعتبارها عصبية البعض، وعدم أكاديمية البعض. ويا أيها الصديق والمناضل الشجاع أرجوك فقط أن تتقبل منى بعض ملاحظات تتجاوز ملاحظات أكثر عدداً وهى لا تنم إلا عن عثرات التحول من التاريخ إلى الدراما والدراما إلى التاريخ. مثل دور سيد قطب.. هو لم يكن كذلك.
وفى المصحة لم تكن له غرفة بمكتب ومكتبة وكتبه لم يكن يجرى تهريبها بل كانت تخرج «ميرى» كما يقولون. وجلساته بعد الإفراج عنه لم تكن بهذه السذاجة. والسجون ليس فيها مطاعم وميس لتناول الطعام.. فطعام السجن يوضع فى قروانة بالزنزانة. وإلى الصديق العزيز عبدالعزيز مخيون دورك العملاق كمرشد قلل من شأنه ظهورك فى برنامج تافه اسمه رامز تحت الأرض.
وأعود إلى المناضل الحبيب وحيد حامد:
كن كالنخيل الباسقات تعاليا ترمى بحجر فتلقى أطيب الثمر.