كنت أصغى بكل كيانى للقارئ حسن الصوت وهو يتلو هذه الآيات المباركات من سورة يونس، وأنا فى غاية التأثر. وفكرت فى نفسى أنه إذا كان الله حبانى بهذا القدر من الحساسية للغة والقدرة على التذوق الفنى للقرآن الكريم، أليس من واجبى أن أنقل هذه المشاعر وأرد الجميل لغيرى؟
■ ■ ■ ■
يحشد القرآن الكريم بلاغته للتأثير على الناس. يلمس أوتار العواطف من أجل أن يردهم إلى خالقهم ردا جميلا. خذ مثلا عندك هذا الموقف المؤثر:
«هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».
■ ■ ■ ■
تكاد الكلمات تنطق بالصوت والصورة. البحر الأزرق المترامى والريح الرخية الطيبة التى تسوق السفينة. وفجأة تثور العواصف من كل مكان. هل شاهدت- عزيزى القارئ- البحر وهو غاضب؟ هل شاهدت الموج كالجبال يوشك أن يقصف القلوع ويغرق السفينة؟ هل شاهدت الماء يحيط حولك من كل مكان، وأدركت أن الهلاك قادم؟ وهل أصغيت وقتها إلى ذلك النداء الخفى فى نفسك أنه لا أحد قادر على إنقاذك إلا الله وحده؟ وقتها ابتهلت إلى الله ورفعت أكف الضراعة. وقتها أغلظت القسم وقدمت المواثيق أنك- إذا نجوت- ستكون شاكرا مدى الحياة لخالقك. يا رب نجنى هذه المرة وسأجتهد فى عبادتك إلى الأبد.
هذا هو الإنسان فى موقف ضعفه. ولكننا جميعا نعلم ماذا يحدث بعدها.
«فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».
■ ■ ■ ■
يا للقرآن العظيم من ريشة مصورة بارعة لأدق المشاعر الإنسانية!، عندما رست السفينة على الشاطئ وأحسوا بثقة أقدامهم على الأرض الصلدة فإنهم تناسوا وعودهم لخالقهم. ليس هذا فحسب، بل برزت غرائزهم الغليظة، ليتكبروا ويتجبروا على مخلوقات الله الضعيفة.
أيها الإنسان الأحمق أتبارز خالقك بالمعاصى؟ يا حسرة على الإنسان الذى يأبى إلا هلاك نفسه. ستعود أيها الأحمق إلى خالقك لتقدم كشف الحساب، الذى هو للأسف فارغ تماما.
■ ■ ■ ■
«إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
يفسر القرآن للإنسان هذا الكون الذى ينتصب أمامه كلغز. المطر ينزل، النباتات تحيا، الأرض تزدهر. الإنسان ينتفش ويزهو. ويظن أن تلك البهجة قائمة إلى الأبد. ثم ماذا بعد ذلك إلا الجفاف والزوال؟ هكذا الدنيا!.
■ ■ ■ ■
القرآن ما هو إلا مناشدة حارة للإنسان كى يبصر أو يتذكر. أو حتى يسأل نفسه من أجل ماذا هذا الذكر كله؟
(وَاللهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
هكذا ببساطة. الحكاية كلها أن الله يريد لنا السلام والسعادة والاستقامة. ولكننا نأبى إلا هلاك أنفسنا!.
وماذا يفعل لنا القرآن إذا كنا نأبى ومصرين أن نأبى!.