التحرير
أشرف الصباغ
تقارب بوتين وترامب في سوريا.. والسيناريوهات المقبلة
على الرغم من فشل مباحثات أستانا حول سوريا في جولتيها الرابعة والخامسة، فإن مباحثات سرية متوازية كانت تدور بين واشنطن وموسكو وعمان بشأن تحديد مستقبل المنطقة الرابعة لتخفيف التوتر. ومن الواضح أيضا أن روسيا كانت تسعى بكل قوتها للتوفيق بين ما يتم إعلانه في مباحثات أستانا، سواء بشكل رسمي أو في شكل تسريبات، وما يجري في المباحثات السرية الموازية في العاصمة الأردنية بين روسيا والولايات المتحدة والأردن من أجل تحديد شكل المنطقة الرابعة في جنوب غرب سوريا والتي تضم محافظة درعا على الحدود مع الأردن ومحافظة القنيطرة على الحدود مع مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. والمعروف أن الأخيرة اتفقت مع روسيا والولايات المتحدة على تأمين حدودها مع سوريا وفرض منطقة عازلة في الداخل السوري بعد حدود الجولان المحتل. هذه المباحثات السرية أثارت قلق العديد من فصائل المعارضة التي تحدثت عن أن إبرام اتفاق منفرد لجنوب سوريا بمعزل عن الشمال، يعمل على تقسيم سوريا والمعارضة. بينما لم يصدر رد فعل واضح ومحدد من نظام الأسد وإيران، ومن الجبهة الجنوبية التي تمثل التجمع الرئيسي لجماعات المعارضة المسلحة التي يساندها الغرب في جنوب غرب سوريا. لقد تم الإعلان، عقب أول لقاء بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب في هامبورج، عن توصل الولايات المتحدة وروسيا إلى وقف لإطلاق النار و"اتفاق لعدم التصعيد" في جنوب غرب سوريا. ويبدأ وقف إطلاق النار في الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد 9 يوليو الحالي بتوقيت جرينتش. عقب هذا الإعلان، أدلى مسؤولون من الولايات المتحدة وروسيا والأردن ببيانات متشابهة، تشير إلى أنها كانت معدة سلفا حول وقف إطلاق النار. وكان وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون قد أعلن بثقة عشية لقاء مجموعة العشرين في هامبورج يوم الجمعة 7 يوليو، أن الولايات المتحدة مستعدة لمناقشة جهود مشتركة مع روسيا لتحقيق الاستقرار في سوريا، بما في ذلك إقامة مناطق لحظر الطيران ونشر مراقبين لوقف إطلاق النار وعمليات منسقة لتسليم مساعدات إنسانية. ومن جانبه أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن موسكو وواشنطن اتفقتا على وقف لإطلاق النار جنوبي سوريا. وقال، بعد لقاء بوتين وترامب، إن روسيا والولايات المتحدة مستعدتان للإعلان عن وقف إطلاق النار جنوب غرب سوريا اعتبارا من 9 يوليو الحالي. أما المتحدث باسم الحكومة الأردنية محمد المومني فقد أعلن أنه تم الاتفاق بين الأردن وروسيا والولايات المتحدة على ترتيبات لدعم وقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا. وأضاف أنه وفقا لهذه الترتيبات التي تم التوصل إليها في عمان، سيتم وقف إطلاق النار على طول خطوط تماس اتفقت عليها قوات المعارضة السورية من جانب، ونظام الأسد والقوات المرتبطة به من جانب آخر. هذه الإعلانات الثلاثة تعيدنا إلى إجراءات نظام الأسد في الفترة الأخيرة والذ أعلن يوم الخميس 6 يوليو الجاري عن تمديد العمل بوقف الأعمال القتالية في المنطقة الجنوبية "درعا - السويداء - القنيطرة" حتى نهاية يوم السبت 8 يوليو، مما يشير إلى أن موسكو تمسك بزمام الأمور جيدا وتستطيع ترويض نظام الأسد والضغط عليه وتوجيهه، بصرف النظر عن رضائه أو عدم رضائه عن الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين موسكو وواشنطن، حتى وإن كانت تعمل لصالح إسرائيل وأمنها بالدرجة الأولى. وهو ما ينطبق على الطرف الإيراني الذي قد لا تروق له هذه الاتفاقات، ولكن لا بدائل أخرى أو خيارات إضافية أمامه. ولكن من جهة أخرى، قد نشهد مغامرات مفاجئة أو خطوات غير محسوبة من جانب دمشق وطهران، تعبيرا عن عدم الرضاء. ومن جانب المعارضة السورية المسلحة والسياسية، تبدو ردود الأفعال شحيحة للغاية. ومن الواضح أن فصائل المعارضة تجري مباحثاتها مع أطراف معينة من جهة، وتنتظر أخرى مع الطرف الأمريكي وحلفائه من جهة أخرى. ولكن من الممكن أيضا أن نشهد خطوات غير محسوبة أو مفاجئة من جانب بعض فصائل المعارضة غير الراضية عن اتفاقات موسكو وواشنطن. أما الجانب التركي، فهو شبه غائب عن هذا المشهد المعقد الذي لم يكن بعيدا عن التوقع. فأي اتفاقات روسية - أمريكية من شأنها تقليص الوجودين التركي والإيراني في مشهد الأزمة السورية، وفتح احتمالات أخرى على مشهد جديد. وهو ما حدث جزئيا، لأن كل التصريحات أعلاه، بما فيها الاتفاقات الثلاثية بين واشنطن وموسكو وعمان، لم تدخل بعد حيز التنفيذ، بصرف النظر عن موعد 9 يوليو الخاص بوقف إطلاق النار في المنطقة التي تخص أمن إسرائيل والأردن. ولكن روسيا أعلنت موافقتها على ذلك، معوِّلَة على خطوات إضافية للتعاون مع الولايات المتحدة.

اللافت هنا أن الولايات المتحدة حريصة في تصريحاتها على عدم خلط الأوراق، ومصرة على تحديد الأمور والمهام بدقة. فقد قال تيلرسون "أعتقد أن هذه هي أول إشارة إلى أن الولايات المتحدة وروسيا بمقدورهما العمل معا في سوريا.. ونتيجة لذلك أجرينا مناقشة مطولة جدا فيما يتعلق بمناطق أخرى في سوريا يمكننا أن نواصل فيها العمل معا لعدم التصعيد". أي أن واشنطن لا تزال تتحدث عن "إشارات" و"استعدادات" و"مناقشات" و"عدم تصعيد"، ولكن لا حديث واضحا حول "وقف إطلاق نار". والمعروف أن اتفاقات سابقة مماثلة لوقف إطلاق النار لم تتماسك لفترة طويلة، ولم يتضح بعد مدى التزام الأطراف المتحاربة بشكل فعلي، وهي نظام الأسد وقوات المعارضة السورية الرئيسية في جنوب غرب البلاد. إضافة إلى الأطراف الإقليمية المتصلة بفصائل المعارضة. لقد سرَّبت وزارة الخارجية الأمريكية تصريحات لمسؤوليها بأن "هذ خطوة هامة. بل وتعد الخطوة الأولى على الطريق الذي سيؤدي إلى اتفاق أكثر شمولا واستدامة لوقف إطلاق النار وتهدئة جنوب غرب سوريا، وأن النقاش يستمر حاليا حول العناصر المهمة من الاتفاق"، بما في ذلك كيفية مراقبة الهدنة، وكل ذلك سيكون موضوعا لمفاوضات مقبلة". ومع ذلك تضمنت هذه التسريبات تصريحات أخرى في غاية الأهمية، مثل "أن اتفاق الهدنة في جنوب غربي سوريا لا صلة له بمحادثات "أستانا، وأن أساس هذا الاتفاق بين موسكو وواشنطن وعمان بشأن سوريا، هو أن يستخدم كل طرف نفوذه سواء مع المعارضة أو نظام دمشق". وذهبت التسريبات إلى أن "واشنطن لا تستبعد محاولة عرقلة وقف إطلاق النار في سوريا". من الواضح أن هناك ترتيبا أكبر سيعقب كل هذه الإعلانات التي جاءت قبل يومين فقط من جولة جنيف حول الأزمة السورية في 10 يوليو الحالي. ومن المتوقع أن تسفر هذه الجولة عن مفاجآت، على الرغم من تشاؤم روسيا ونظام الأسد والتصريحات المطاطة التي أدلى بها المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا حول أن جولة جنيف مهمة، ولكن لا ينبغي انتظار الكثير نتائج كثيرة منها. من جهة أخرى، أكد وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون أن الولايات المتحدة لا ترى أي دور للرئيس السوري بشار الأسد أو عائلته، في مستقبل سوريا، على المدى البعيد. وهو ما اعتبرته وسائل الإعلام الروسية والأخرى التابعة لنظام الأسد خطوة إيجابية مهمة في موقف واشنطن بشأن مصير بشار الأسد. ولكن تيلرسون استدرك قائلا إن "كيفية رحيل الأسد لم تتحدد بعد، لكن سيحدث انتقال في مرحلة ما بالعملية السياسية لا يشمل الأسد وأسرته". قد تبدو الولايات المتحدة غير مهتمة بمصير الأسد على المدى القريب، مما يعد تنازلا من وجهة نظر روسيا ونظام الأسد. ولكن كل التحركات الحالية تشير إلى أن واشنطن حققت، وبأيد روسية، استراتيجيتها بشأن المناطق العازلة، ومناطق حظر الطيران، والاستجابة لرغبة روسيا بنشر قوات شرطة عسكرية تابعة لها على خطوط التماس بين مناطق "تخفيف التوتر". إضافة إلى ضمان أمن إسرائيل وهو ما يهم كلا من موسكو وواشنطن. الأمر الذي سيسفر عن أن المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد في الوقت الراهن، ستخضع حسب "التنازلات الأمريكية" المفترضة للقوى الموالية لواشنطن في سوريا، وفي مقدمتها "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية. إن سوريا تتعرض الآن لسيناريو تقسيم ما يسمى بمناطق النفوذ. وهو ما اعتبره الخبير الروسي في الشؤون الاستراتيجية إيفان كونوفالوف أمرا مشابها لما شهدته الجبهات الألمانية عام 1944، حينما قرر حلفاء موسكو الأنجلوساكسون فتح الجبهة الثانية على ألمانيا النازية التي كانت تحتضر مع تقدم الجيش الأحمر الذي وصل آنذاك إلى مشارفها واجتاح أراضي واسعة لها قبل بلوغ عاصمتها برلين. وقال "هم الآن، أي الحلفاء إن صح التعبير، التحقوا بالقتال في مراحله الأخيرة حتى خلصت جهودهم آنذاك إلى تقسيم أوروبا، وهذا ما ينتظر سوريا على ما يبدو في صيفنا هذا". وأضاف أن الأمريكيين لا يريدون شيئا في سوريا سوى البقاء في المناطق التي يشغلها حلفاؤهم الآن على الضفة الشرقية للفرات. واعتبر كونوفالوف أن روسيا هي "الفنان الوحيد الذي يمكن للولايات المتحدة مخاطبته على الحلبة السورية، لصمود مناطق وقف التصعيد، حيث إن الاتفاق مع إيران سيعني ابتلاع السكين على الحدين بالنسبة إلى واشنطن، التي سيستحيل عليها كذلك الاتفاق مع أنقرة في ظل الدعم الأمريكي المستمر للأكراد". وقال إن "واشنطن سوف تحاول من خلال الاتفاق مع موسكو، تعزيز مواقفها في المفاوضات مع الأتراك، وتأجيج المواجهة مع إيران. العلاقات الروسية الأمريكية في الوقت الراهن باتت على مفترق طرق". وذهب الخبير الروسي إلى أنه "حتى لو اتفق بوتين وترامب على خطة ما في سوريا، فإنه سيتعذر على الرئيس الأمريكي تطبيقها، والتاريخ شاهد على واشنطن التي فقدت مصداقيتها بعد التقلّب المتكرر في مواقفها والإخلال بوعودها. هذا الواقع يحملني على استبعاد إتمام أي اتفاق بين موسكو وواشنطن حول الأزمة السورية وربما سواها من النقاط الخلافية على حلبة السياسة الدولية. قمة بوتين ترامب، سوف تمثل انطلاقة جديدة في العلاقات الروسية الأمريكية، ولكن من نقطة الصفر". إن تصريحات الخبير الروسي تبدو غير دقيقة نسبيا، نظرا لاعتماده منطقا "وطنيا" روسيا ساخنا من جهة، وتصوره نجاحات تحققها روسيا بشكل مستقل من جهة أخرى. وهو ما يتناقض مع الواقع. هذا إضافة إلى تقديراته غير الدقيقة حول مساحات الوجود الأمريكي في سوريا والهدف منها. ويبدو أنه لا يريد أن يرى تلك الأهداف الاستراتيجية ليس فقط للوجود الأمريكي، بل وأيضا للوجود التركي، ومساحات النفود لبعض القوى الإقليمية. وهو ما سيجعل روسيا والأسد وإيران محاصرين في مساحات بعينها لا يمكن أن تكون مفيدة بدون المرور بمراكز تأثير وسيطرة واشنطن وحلفائها في سوريا. ولكن يبدو أن الإدارة الروسية هي التي تعرف ذلك وتدرك مخاطره جيدا. وبالتالي، تحاول قدر الإمكان ربط الولايات المتحدة بتعهدات، وترك مساحة خلفها للمناورة في حال ظهرت تحولات مفاجئة أو مناطق فراغ قد تكون مضرة بمصالح روسيا ومناطق نفوذها الضيقة في سوريا، خاصة وأن أوساطا روسية كثيرة متخوفة للغاية من تعرض قوات الشرطة العسكرية الروسية في سوريا لضربات موجعة في المستقبل، في حال الاتفاق على نشرها. وهو ما يستعيد سيناريوهات شبيهة نسبيا بما حدث في أفغانستان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف