منذ اللحظة الأولى لقرار المقاطعة الذى أعلنته الدول الاربع مصر والسعودية والبحرين والإمارات ضد قطر، ثم بعد تسريب الأخيرة للمطالب الثلاثة عشر التى تقدمت بها تلك البلدان عبر الوسيط الكويتى، تذرعت الدوحة بأن تلك المطالب غير قابلة للتطبيق لأنها تتعارض مع مبدأ السيادة الذى تصر عليه ولا تتنازل عنه، وشاركتها فى ذلك تركيا ورئيسها أردوغان الذى كرر الحجة ذاتها.
من الناحية الشكلية البحتة فمن حق كل دولة أن تتمسك بالسيادة كحق مطلق فى أن تُسيّر شئونها دون أى تدخل خارجى، وفى المقابل أن تمتنع عن التدخل فى شئون الآخرين سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، وذلك التزاما بما انتهى إليه المجتمع الدولى من حقوق حُسن الجوار وعدم الإضرار بالغير. ووفقا لذلك فإن السيادة المطلقة للدولة، حتى إذا قبلنا هذا المفهوم، ليست مُطلقة فى الواقع، لا فى المجال الخارجى أو فى المجال الداخلى. ففى المجال الأول هناك القوانين الدولية والمعاهدات والالتزامات الجماعية التى تتوصل اليها مجموعة من الدول وتشكل فى الواقع العملى إرادة أعلى من إرادة الدولة منفردة، وهو ما نراه فى خضوع الدول لقرارات المؤسسة فوق الإقليمية التى تنشئها هذه الدول نفسها من أجل توفير حماية أعلى لكل الأعضاء، أو تحقيق مصالح جماعية أعلى فيما بينهم وفى مواجهة الغير. أما فى المجال الداخلى فإن سيادة الدولة المطلقة مُقيدة بالمفاهيم والتفاهمات التى توصل إليها مجموع الدول تحت مظلة الأمم المتحدة ومنظماتها الإقليمية لحماية حقوق الإنسان وحماية البيئة والصحة العامة، وفى المجال الرياضى، حيث نرى للفيفا وما فى حكمها من منظمات رياضية قارية أولوية فى مبادئها والتزاماتها الجماعية على القوانين المحلية، بل يتم تغيير هذه القوانين المحلية لكى تتوافق مع تلك المبادئ والالتزامات الدولية الجماعية باعتبارها التزامات تحقق مصالح كونية هى أعلى من مصلحة دولة بعينها أيا كانت هذه الدولة، وإذا كان الأمر كذلك فإن التذرع بالسيادة حسب النهج الدعائى القطرى يصبح دليلا على إفلاس هذه الدولة وخروجها على الأطر الحاكمة للنظام الدولى ككل، بل الأكثر من ذلك، فإن حجة السيادة فى مجال مكافحة الارهاب تعنى وفقا للفهم القطرى أن تستمر هذه الدولة فى الإضرار بمصالح العالم كله دون توقع رد فعل أو عقاب يتناسب مع تلك الأضرار البالغة، وهى ما يجعلها دولة مارقة وفقا لروح القانون الدولى المعمول به.
لقد ربطت الدول الأربع مقاطعتها للدوحة وفقا للمطالب الثلاثة عشر والمبادئ الاربعة التى وردت فى بيان القاهرة 5 يوليو الحالى، بحق تلك الدول فى أن تدفع هذه الدولة المارقة لكى تعيد هيكلة سياستها بما يتناسب مع ما انتهى إليه العالم كله من تفاهمات واتفاقات بضرورة مكافحة الإرهاب الدولى بداية من منع التحريض الدعائى والسياسى ومرورا بالامتناع الكامل عن تمويل الكيانات الإرهابية وتوفير الملاذ الآمن للعناصر الإرهابية، ونهاية بالالتزام الصارم بما يتفق عليه العالم من إجراءات لمحاصرة هذا الوباء والقضاء عليه، ومن ثم تعزيز الأمن العالمى ككل. ونلفت النظر هنا إلى ما أقرته مجموعة الدول العشرين الأكثر تقدما اقتصاديا وتأثيرا سياسيا فى العالم كله الذى عُقد فى هامبورج بالمانيا حيث اعتبر أن الإرهاب يمثل تهديدا للعالم كله ويجب مواجهته ومنع تمويله وتبادل المعلومات الاستخبارية والتنسيق فى الجهود المشتركة لمواجهة التنظيمات الإرهابية فى أى مكان، وتقييم المخاطر المنتظرة بعد القضاء على داعش فى العراق وسوريا والتحسب لها. وتعد هذه الاتفاقات الصادرة عن قمة هامبورج تأكيدا على ما انتهت إليه قمة الرياض وما طالبت به الدول الأربع فى بيان القاهرة وبيان الرياض الثانى.
هذه التفاهمات الدولية التى تصل إلى حد الاتفاقات الجماعية الملزمة ليس فقط للدول التى أقرتها، بل تمثل قيدا مباشرا على كل الدول فى العالم، ولا يمكن لطرف أن يتذرع بأن حقوقه السيادية المطلقة تمنعه من المشاركة فى محاربة موجة الإرهاب الراهنة أو ما قد تتفرع منها فى المستقبل القريب، وهو ما ينطبق على قطر وعلى غيرها من الدول. وبالتالى فإن حجة السيادة كذريعة للتملص من الالتزامات الاقليمية والدولية لا معنى و لا سند لها، بل تُعد حجة على أصحابها تؤكد تورطهم فى تلك الأنشطة المُحرمة، وبما يوجب فرض عقوبات دولية جماعية إلى أن تتطهر تلك الدولة من كل الجرائم التى تورطت فيها ودفع التعويضات المناسبة لحجم الضرر الذى تسببت فيه.
قطر على هذا النحو تمثل نموذجا فجا على بلد شارك بكل أريحية وبكل إصرار فى أنشطة إرهابية فى دول أخرى استنادا لأوهام زعامة إقليمية ودون أى سند، فقط للإضرار بأهل هذه البلدان وبنظمها السياسية التى ارتضتها شعوب تلك البلدان، فهل من السيادة لقطر أن تمول جماعات إرهابية فى مصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال حسب تقارير رسمية أمريكية وألمانية وبريطانية؟ وتعتبر فى الآن نفسه أن لا أحد له الحق فى أن يقف فى مواجهتها أو يطالبها بالتوقف عن تلك الأنشطة الإجرامية فى حق شعوب آخرى وفى حق الأمن الإقليمى. والمفارقة هنا أن الدوحة التى تُصر على سيادتها المطلقة فى رعاية الارهاب الدولى، تلجأ إلى دول وقوى معروف عنها سياستها التدخلية المباشرة والعنيفة فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، كإيران وتركيا من أجل الحماية من أشقاء لها تشكل معهم نظاما إقليميا فرعيا فى الخليج وأحد أهم دعائمه هو مواجهة التمدد الإيرانى فى هذا الاقليم بكل اشكاله الطائفية والسياسية والعسكرية، وبما يشكل خيانة مفضوحة لميثاق مجلس التعاون الخليجى. الأكثر من ذلك فإن سيادة قطر المزعومة لم تمنعها من أن تتفق مع ألمانيا فى أن تقدم لاستخباراتها المعلومات والوثائق المطلوبة عن علاقات الدوحة بالكيانات الإرهابية العاملة فى الأراضى السورية والليبية والعراقية لكى تقرر برلين حدود الدعم القطرى لتلك الكيانات الإرهابية، وهذا هو المُعلن، أما المُضمر فهو توفير المعلومات الموثقة عن تلك الكيانات لألمانيا نظير أن تعلن برلين براءة قطر من دم الشعوب العربية. ويا لها من سيادة قطرية مزعومة مخترقة ومغموسة بالدم والخراب.