الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
من الآخرة إلى الدنيا!
فى مقالة الأربعاء الماضى تحدثت عن الآخرة التى استعجلناها واستحضرناها قبل أن يحل ميعادها لنعيش فيها، ونحن لا نزال من الناحية الشكلية على الأقل أحياء نعيش فى الدنيا ولم ننتقل بعد إلى العالم الآخر. وفى هذه المقالة أتحدث عن تجربة سابقة عشناها منذ أكثر من قرنين وقطعنا فيها هذا الطريق لكن فى الاتجاه العكسى، إذ انتقلنا من الموت الذى كنا فيه إلى الحياة أو من الآخرة إلى الدنيا. ونحن نبدأ من واقعة قد تبدو للبعض غريبة سجلها مؤرخنا الفذ عبد الرحمن الجبرتى فى كتابه العمدة «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» وحدثنا فيها عن اليوم الذى اعتقد فيه المصريون أن القيامة ستقوم بعد يومين اثنين.

كان ذلك يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ذى الحجة عام ألف ومائة وسبعة وأربعين للهجرة، الموافق للحادى والعشرين من مايو عام ألف وسبعمائة وخمسة وثلاثين للميلاد. فى ذلك اليوم أشيع فى مصر أن القيامة ستقوم يوم الجمعة بعد يومين من انطلاق هذه النبوءة التى سرت سريان النار فى الهشيم وفشت فى الناس قاطبة كما يقول الجبرتى وعمت المدن والقرى «فودع الناس بعضهم بعضا. ويقول الإنسان لرفيقه: بقى من عمرنا يومان. وخرج الكثيرون إلى الغيطان والمنتزهات ويقول بعضهم لبعض: دعونا نعمل «حظ» ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة. وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون فى البحر. ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلى استعدادا للقاء اليوم الموعود، فإن ظهر من يتشكك فى صدق النبوءة انبرى له الآخرون يقولون إن فلانا اليهودى وفلانا القبطى وهما يعرفان الجفور والزايرجات ـ أى التنجيم والسحر ـ ولا يكذبان فى شىء يؤكدان أن القيامة ستقوم فى هذا اليوم. وهكذا وقف المصريون جميعا ينتظرون وكثر فيهم الهرج والمرج حتى جاء يوم الجمعة فلم يقع فيه شىء. وتبعه السبت فتنفسوا الصعداء دون أن يكذبوا النبوءة، وإنما ردوا عدم تحققها للسيد البدوى، والدسوقى، والشافعى الذين تشفعوا للمصريين فقبل الله شفاعتهم!

وقد وصفت هذه الواقعة وأنا أبدأ فى روايتها بأنها عجيبة. والواقع الذى يلمسه من يقرأ تاريخ مصر فى تلك الأيام أنها واقعة طبيعية ومنطقية، فلم تكن تلك الأيام وما سبقها إلا موتا يتوالد ويكرر نفسه جيلا بعد جيل. الحكم كان قتالا يوميا بين عصابات المماليك بعضها وبعض، وبينها وبين عصابات البدو، وبينها وبين الوالى العثمانى وجنوده، وبين هؤلاء جميعا وعامة المصريين. والأمن كان مفقودا. والحياة اليومية كر وفر وخطف ونهب وسلب ورشوة. وفى حياة كهذه الحياة لابد أن يكون الموت منتظرا وتكون القيامة خلاصا يسعى له الناس ويتمنونه ويتنبأون به.

وليس غريبا أن تسبق الواقعة التى تحدثت عنها واقعة أخرى فى العام ذاته ـ ألف ومائة وسبعة وأربعين للهجرة ـ وفى شهر رمضان. وبطلها رجل ظهر بالجامع الأزهر وادعى أنه كان فى شربين فنزل عليه جبريل وعرج به إلى السماء، وأنه صلى بالملائكة ركعتين وأذن له جبريل. ولما فرغ من الصلاة أعطاه جبريل ورقة وقال له: أنت نبى مرسل. فانزل وبلغ الرسالة وأظهر المعجزات! والغريب، أو ليس غريبا، أن يجد هذا الرجل فى عامة الناس رجالا ونساء يصدقونه ويتولون حمايته. لكن علماء الدين استجوبوه فأصر على ما قال وقدموه للباشا التركى الذى أمر بقتله، فكانت قصة هذا النبى المزعوم مناسبة كثر فيها الحديث ونظم بعضهم أشعارا تؤرخ لها، منها هذه المواليا التى نظمت بالعامية:

واحد ظهر وادعى إنه نبى من حق

وإنه عرج للسما، وإنه اجتمع بالحق

وإبليس ضلوا وصدوا عن طريق الحق

والمجال لا يتسع لذكر الوقائع الغريبة التى اجتمعت فى هذا الوقت بالذات سواء صدرت عن الطبيعة كالريح السوداء التى هبت على البلاد فزلزلتها أو الطواعين التى توالت عليها، أو صدرت عن الناس. ويكفينا ما تقدم لنعرف أنه كان تعبيرا رمزيا عن ثقافة حولت الدنيا إلى آخرة وجعلت الحياة موتا يتستر بالدين. ثقافة عبرت عن شعور ممض بالابتعاد عن الأصول الحية النقية وعن فقدان القدرة على الإضافة أو التجديد وعن سريان الموت فى كل شىء واقتراب العالم من نهايته.

والواقع أن كل شىء كان ينذر بنهاية قريبة. لكنها لم تكن نهاية العالم، وإنما كانت نهاية عصر وبداية عصر آخر. كانت إرهاصات متتابعة بميلاد جديد خرجنا فيه من عصور الظلام والموت وعدنا للدنيا من جديد. وحين نقرأ ما كتبه المؤرخون عن مصر فى القرن الثامن عشر: الجبرتى، والطهطاوى، والرافعى، وشفيق غربال، ولويس عوض، وأنور لوقا، ومحمود الشرقاوى، وبيتر جران، ومحمد عبد الغنى حسن وغيرهم نرى أن هذا القرن لم يكن مجرد نهاية كما قلت، ولم يكن مجرد هامش سبق النهضة، وإنما كان أرضا خصبة بدأت فيها النهضة حياتها. كان مطهرا أو جسرا أو أعرافا اغتسلنا فيها من أدران الانحطاط وانتقلنا من جحيم العصور الوسطى قبل أن ندخل فردوس العصور الحديثة.

فى القرن الثامن عشر اندلعت الثورات والهبات التى حاولنا فيها أن نتحرر من الحكم العثمانى ونستعيد استقلالنا الضائع. ثورة على بك الكبير التى دامت سنوات استقلت فيها مصر وتحالفت مع بعض الدول الأوروبية واستولت على بلاد الشام والحجاز، وثورة الأمير همام فى الصعيد. وابن حبيب فى الوجه البحرى. وفى القرن الثامن عشر ظهرت الزعامات الوطنية والشعبية التى وقفت فى وجه الأتراك والمماليك وقاومت الفرنسيين ووقفت مع محمد على ضد السلطان العثمانى. عمر مكرم، ومحمد كريم، وحسن طوبار، وحجاج الخضرى شيخ الخضرية، وابن شمعة شيخ الجزارين.

وفى القرن الثامن عشر انتعشت الثقافة المصرية وارتفعت أصوات الشعراء والكتاب والعلماء تندد بفساد العصر وتخلفه وانغلاقه وتطالب بتجديد العلم والفكر وتعيد الاعتبار للحياة الدنيا ومايحق للانسان فيها من حرية ومتاع وتعبر عن هذا الموقف بقدر من الصراحة نفتقر له فى هذه الأيام. الشيخ حسن العطار، وكان شاعرا كاتبا فقيها فلكيا اشتغل بالتدريس فى الأزهر وكان من تلاميذه رفاعه الطهطاوى، وهو الذى رشحه للسفر إلى فرنسا، وقد أصبح العطار شيخا للأزهر. وهو القائل «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها». ويقول الشاعر الأدكاوى فى الدعوة للتجديد:

كن للمعاصر خير ناصر/ كم للأواخر من مفاخر/ لا تحقرن جديدهم/ كم فى جديد همو جواهر/ من كان منهم مبدعا/ فاعقد عليه من الخناصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف