الأهرام
عبد المنعم سعيد
ربما كانت الفرصة الأخيرة !
أرجو ألا يكون العنوان مبالغا فيه، فبالنسبة للدول والأوطان فإنه لا يوجد دائما فرصة أخيرة، وإنما هناك فرص متجددة دوما، ربما يضيع بعضها، ولكن إذا ما جد الجد وشمرت الأمة عن سواعدها وبدأت العمل الشاق للبناء والتنمية فإنها تستطيع اللحاق بما فاتها. هكذا كانت قصة دول كثيرة كانت إلى وقت قريب متخلفة ونامية ومفعمة بالمشكلات الكثيرة التى تقترب من المجاعة أو الفوضى الدائمة؛ ولكنها فى لحظة بعينها من الهمة عزمت وتوكلت على الله وبدأت معركة اللحاق والدخول إلى العالم المتقدم. الأمثلة كثيرة من أول كوريا الجنوبية فى أزمنة سابقة، وحتى فيتنام فى الوقت الراهن؛ وكلاهما كان متخلفا ـ ودخل حروبا أحرقت الأخضر واليابس، ولكنها الآن تقف فى صفوف الدول التى تنتج وتصدر وتبتكر وتنافس بسرعات فائقة. حالنا فى مصر يبدو مختلفا، فتخلفنا لا يمنعنا من بعض النمو، ونمونا كسيح إلى الدرجة التى لا يأتى منه إلا التخلف. فالحقيقة أن مصر تتقدم إذا قارنت نفسها بنفسها، فنحن أحسن حالا الآن عما كنا عليه من قبل، ولكننا فى الوقت نفسه نتدهور فى جميع المقاييس التى تضعها التقارير الدولية للتنمية والتقدم. هذه الحالة من العجز عن اللحاق بمن سبقونا هى الأمر الذى علينا تجاوزه وبالقدرة والسرعة والمعدل الذى يعيدنا مرة أخرى إلى السباق، ومن يعرف ربما نصل إلى مراتب متقدمة.

المسألة ببساطة هى أن العالم يتغير بسرعة أكبر من السرعة التى نتغير بها، وهناك مناطق كاملة من العالم لم تعد تعرف ظواهر مثل الحرب والثورة والفوضي، وبالطبع المجاعة أو العطش أو الأمراض المتوطنة. لم يعد متصورا على سبيل المثال أن تكون هناك حرب بين الولايات المتحدة وكندا، ولا أن تنتشر الأوبئة فى أوروبا، ولا فى الدول التى تعدت حاجز التخلف فى آسيا أو أمريكا الجنوبية، والهند والصين اللتان هما أكبر مخزون بشرى (نحو 40% من البشرية جمعاء) باتت قائمة أعمالهما شبيهة تماما بتلك الخاصة بالدول المتقدمة. العالم المتقدم فى العموم أصبح متحررا من الكثير من الأوجاع التى كان يشاركنا فيها، والآن فإنه إزاء مرحلة جديدة من التاريخ يخلق فيها إنسان جديد ومدن جديدة ومركبات أكثر جدة. ومن هنا فإنه ربما نكون ما نعايشه الآن من محاولة للتنمية هو الفرصة الأخيرة ليس لأننا سوف نكون بالضرورة متقاعسين، وإنما لأن حركة العالم باتت بالسرعة التى لا نستطيع ملاحقتها. لقد بدأت العصور الحديثة مع القرن التاسع عشر وكان لنا موعد مع الأقدار خلال ذلك الزمن فى عهد محمد على واسماعيل؛ ولكن النتيجة النهائية كانت أن القرن انتهى وقد سبقتنا اليابان وأوروبا كلها وأمريكا الشمالية. وفى القرن العشرين أعطتنا الأقدار ثورتين فى 1919 و 1952، واحدة مدنية ليبرالية والأخرى وطنية ثورية، وكانت النتيجة مع نهاية القرن سبق عشرات الدول لنا فى كل الموازين المعروفة. ومع القرن الحادى والعشرين أعطتنا الأقدار ثورتين لكى نتخلص من الثورة القديمة، وبعدها من يريدون لنا التراجع أكثر إلى الخلف من الإخوان، وبقى أن ننتهز الفرصة مع نهاية العقد الثانى من القرن. وبصراحة فإن معركتنا الأساسية تدور حول الخلاص من التخلف، فكل العالم يحارب الإرهاب، وكل العالم يجرى وراء التقدم فى السباق، وكل العالم يأخذ بسرعة من الإنجازات التكنولوجية التى لا عين رأتها من قبل ولا سمعتها أذن، ولا خطر بشأنها عقل بشر. وبصراحة أكثر فإن حالة التقدم التى نسعى إليها لا يقوم بها شخص واحد، ولا مؤسسة واحدة، ولا قطاع واحد من الشعب؛ وإنما هى عملية مركبة من كل هذه العناصر يقودها عقل يعرف كيف يقود وينظم ويلهم.

العجيب أننا كنا دوما نعرف ما يجب عمله، ولكننا دوما أيضا كنا نناور ونداور بحثا عن طرق تؤجل لحظات القرارات الصعبة معتقدين أن ألم اليوم ربما يتحول بطريقة سحرية إلى سعادة غدا. ولكن الألم يزيد، والآخرين يسبقون، ولا يمكن لنا الاستمرار على ما نحن عليه من معدلات نمو، وعلى طريقتنا فى إدارة المؤسسات. وعندما كان معروضا القرار الخاص بترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية كان المشهد فى مجلس النواب محزنا، فلا المنصة قادرة على إدارة الجلسة، ولا كان النواب ملتزمين باللائحة، وفوق ذلك كله فإن الساعة الإلكترونية، والتابليت المخصص للتصويت، لم تكن تعمل. كنا نرجع إلى الخلف، وبعد أن قضيت عقدا كاملا فى المناداة بضرورة الإدارة الإلكترونية للجلسات فى المجالس التشريعية، فيكون الحديث والتصويت تبعا لقواعد وتوقيتات إلكترونية؛ وبدا أن المجلس النيابى المنتخب من الشعب بات متبعا لهذه القواعد فيما أصبح أهم إنجازات الثورتين، إذا بنا نعود مرة أخرى إلى ما كنا عليه، التصويت وقوفا، أو بالأيدي، أو بالتصفيق.

بالطبع ليس هذا كل مشكلاتنا، أو مآزقنا، ولكنها العقدة التى عندها تجتمع الشرعية والكفاءة والسرعة والمصداقية فى ممارسة واحدة. الفرصة المتاحة لنا فيها أولا أننا لأول مرة نعترف وبوضوح كامل بحالتنا التى لا تسر أحدا، وثانيا أننا نعترف بأن العمل والعمل وحده هو الذى يجعلنا نخرج مما نحن فيه؛ وثالثا أننا على استعداد لاتخاذ قرارات صعبة اتخذتها كل أمم الدنيا التى عزمت على الخروج من التبعية وانتظار الصدقات العالمية؛ ورابعا أننا نعرف بما نواجهه من تحديات سواء تلك التى تتعلق بالإرهاب، أو بالبيئة الإقليمية غير المواتية، أو بالمصاعب الآنية التى تواجه عمليات التنمية فى البلاد؛ وخامسا أننا نعرف فى ذات الوقت الإمكانات والمواهب التى تذخر بها مصر فى نهرها وبحارها وأرضها والمائة مليون نسمة الذين ينتمون إليها. مكونات هذه الفرصة الكبيرة تعطينا مجالا لكى نحقق وننجز ما حلمت به أجيال كثيرة قبلنا، ويجب ألا تكون الأجيال الحالية سببا فى حرمان الأجيال اللاحقة من تحقيقها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف