الوطن
د. محمود خليل
إكـرام الميت دفنه
هل يليق أن نترك جثث المصريين الذين ماتوا جوعاً وعطشاً فى صحراء أجدابيا بليبيا دون سعى حثيث لإحضارها وتهدئة نار الحزن داخل نفوس ذويهم بدفنهم فى تراب هذا البلد؟

هل من المعقول أن تضيق بهم مصر أحياء وأمواتاً؟

السيدة فاطمة العبيدى، مدير المكتب الإعلامى للهلال الأحمر الليبى، طالبت السلطات المصرية بالتعاون مع نظيرتها الليبية فى هذه القضية، مؤكدة أن إمكانيات الهلال الأحمر الليبى لا تكفى للبحث عن تلك الجثث، وإحضارها من المناطق النائية الموجودة بها. وأضافت «العبيدى»: «السلطات المصرية غير متعاونة، ولم نتلقّ سوى اتصال واحد من السفير المصرى يطلب تسلم 7 جثث فقط».

لا يليق بدولة بحجم مصر أن تترك جثث أبنائها على هذا النحو، يشق على نفسى أن أعقد مقارنة فى هذا السياق بين هذا الموقف وما تفعله إسرائيل من أجل استعادة جثة أو رفات أى مواطن إسرائيلى من أيدى الفلسطينيين، فتدخل فى مفاوضات ممتدة وتوافق على الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين لديها مقابل استرداد رفات مواطن.

«نحن أمام سلطات غير متعاونة».. كذلك قالت «العبيدى» مؤكدة أن الهلال الأحمر الليبى يريد إعادة هذه الجثث ليحتويها تراب هذا الوطن، فى حين لا تبدى السلطات المصرية تعاوناً فى هذا السياق. هذا الأمر -كما ذكرت- لا يليق بنا، وعلى وزارة الخارجية أن تتحرك حتى تعيد جثة كل مصرى صعدت روحه إلى ربه وهو يعانى الجوع والعطش، تعبيراً عن احترامها للبلد الذى تمثله، وأهالى من أفضوا إلى ربهم فى الصحراء.

«دفن الميت» بين أهله أمر شديد الحساسية بالنسبة للمصريين، وكلنا يعلم أن الناس تغضب كل الغضب أمام أى قرارات تتخذها الحكومة لنقل المقابر من مكان إلى مكان، لا يوجد شىء يستفز المصرى أكثر من هذا الأمر، والسبب فى ذلك بسيط؛ فالمصريون أمة ضاربة بجذرها فى أعماق التاريخ، ولا يغرن أحد المشكلات الاقتصادية التى تعانى منها مصر، فالمشكلات مؤقتة، ومهما طال الأمد فسوف تحل، أما حضارة هذا الشعب فباقية، ولا يستطيع أن تصمد أمامها أى دولة أخرى مهما تاهت بما لديها من أموال. احترام الموت وجثث الأموات جزء من حضارة هذا الشعب، الأهرامات الثلاثة شاهد على ذلك، والرباط النفسى العميق الذى يربط الكثير من المصريين بالمقابر التى تضم عظام موتاهم شاهد آخر. وكذلك تبدو الشعوب الضاربة بجذورها فى عمق التاريخ، لقد وصف «جارثيا ماركيز» واحدة من شخصيات عمله الأشهر «مائة عام من العزلة» وهى تحمل عظام آبائها وأجدادها عندما قررت الانتقال من قريتها للعيش فى قرية أخرى، فحيث توجد عظام الأموات يوجد الوطن.

قد يبدو الموضوع بالنسبة لبعض المسئولين بسيطاً، لكنه مهم أشد الأهمية لأهالى الضحايا، والقرارات الرسمية التى يصح أن تتخذ لحل هذه المشكلة ستعكس مستوى الاحترام لثقافة هذا الشعب، وهى ثقافة وُلدت مع الحضارة الفرعونية وغذتها ودعمتها العقائد السماوية التى تقلّب عليها المصريون، بدءاً من اليهودية، مروراً بالمسيحية، وانتهاءً بالإسلام.

إكرام الميت دفنه يا سادة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف