التحرير
محمد المنسى قنديل
الألماس.. الصديق الأوحد
عندما رقصت مارلين مونرو في فيلم "البعض يفضلونها شقراء" وهي تغني "الألماس أفضل صديق للفتاة" لم تكن مجرد أغنية استعراضية، ولكنها كانت تمهيدا لأكبر خديعة اقتصادية ما زال العالم يعيشها حتى الآن، كانت على المسرح وهي ترتدي فستانا أحمر عاري الكتفين يحيط بها عدد من الراقصين، يقدمون لها نماذج لقلوبهم ولكنها ترفضها جميعا، لا تقبل غير أشرطة سوداء ملتصق بها قطع من الألماس، تحولت الأغنية إلى طقس ومقدمة لازمة للزواج، وبعد ما يقارب من نصف قرن من الزمن أعادت السينما إنتاجها ثانية بصوت نيكول كدمان في فيلم "مولان روج" لتؤكد الهدف الأول وهو تفضيل الألماس عن بقية الأحجار الكريمة، هذه الأغنية وغيرها من الأفلام جعلت من الألماس رمزا للحب، وعلى العاشق أن يجلس على ركبته كي يقدم الخاتم الألماسي لحبيبته، وانتقلت العادة من الشاشة للواقع، ومن أمريكا لبقية العالم، فهل للألماس هذه القيمة الفعلية؟ ذهبت إلى "أنتوورب" أشهر مدينة للألماس في أوروبا وربما في العالم بالمصادفة، كنت في زيارة لهذه المدينة الفلامنكية الصغيرة في شمال بلجيكا بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الأوروبية، ولأزور بيت رسامها الشهير "روبين"، كان بيتا صغيرا ممتلئا باللوحات العملاقة التي استوحاها من الكتاب المقدس، وبعد جولة وسط حدائق المدينة الممتدة، ومشاهدة أكبر مواني العالم الذي أقيم على نهر، اكتشفت الوجه الآخر للمدينة، فقد كان الألماس الخام يأتي إليها من مختلف مناجم العالم وتقوم عشرات الورش بقصه وشظفه وصقله، من هذه المدينة خرجت أشهر ماسات العالم واحتلت مكانها على رؤوس الملوك والملكات، في الحي التجاري ذهبت لمقابلة واحد من أشهر تجار الألماس، كان تاجرا ماهرا من أصول لبنانية يتصارع في سوق يستولى عليها اليهود، كانت المنافسة من حوله رهيبة لإبعاد كل من هو غير يهودي من هذه التجارة، ولكنه كان يعتمد على أجيال من المهاجرين اللبنانيين في قلب إفريقيا هم الذين يؤمنون له بضاعته الخام، كان مشغولا بتجميع مجموعة كاملة من الألماس الملون لحساب سلطان بروناي، منذ زمن قصير لم يكن هناك محبون للألماس الملون، كان الجميع يعشقون اللون الصافي كأنه قطعة من الضوء فهذه هي قيمته الحقيقية، ولكن أثرياء الخليج غيروا الذوق العام، أصبح الألماس بكل ألوان الطيف جزءا من شغفهم، مجموعة السلطان وألوان الطيف التي تعكسها كانت تفوق الخيال، وكنت سعيدا لأنني رأيتها قبله، لحظة عابرة من تاريخي الصغير، أخذ يحدثني عن "أنتوورب" المدينة الصغيرة المهيأة لهذه الصناعة الخطرة، فهنا يصنع فقط الألماس الكبير الحجم، لكل قطعة منها تاريخها الخاص، وأغلبها لا يستخدم في الزينة لأنها أثمن من ذلك، ولكنها توضع في مقدمة الحفارات العملاقة التي تغوص في باطن الأرض بحثا عن البترول والغاز وربما الماء، أما الألماسات الصغيرة التي تدخل في صناعة المجوهرات والساعات فهي لا تليق بمستوى المدينة ولكنها تصنع بعيدا في الهند، شوارع "أنتوورب" كلها مراقبة بالكاميرات، وهي تعد من أوائل المدن التي وضعت كل مواطنيها وزوارها تحت المراقبة، وعند حدوث أي حادث سطو من الممكن إغلاق كل منافذها في ظرف 15 دقيقة فقط، وبينما كنا نتحدث جاء زائر من إفريقيا، شخص ضخم من زعماء القبائل المهمين، تحدث قليلا بالفرنسية ثم مد يده في جيب معطفه وأخرج مجموعة من الأحجار، أحجار كربونية غير مستوية يمكن رؤيتها في أي مكان، ولكن الصائغ اللبناني تأملها بنظرة عليمة، كان يرى الألماسة المدفونة بداخلها والتي لا يستطيع الناس العاديون مثلي أن يروها، الألماس يظل دفينا كالسر حتى اللحظة الأخيرة. لم يعرف العالم القديم الألماس تقريبا، لم تكن أدوات القطع والشظف والتلميع قد تطورت لدرجة استخلاص الألماس من جوف قطع الصخور، اكتفى المصريون بصنع الزجاج وأضافوا إليه العديد من الألوان، ولكن الألماس بدأ يأخذ مكانته مع الانتشار الأوروبي في العالم، كان الملك لويس الرابع عشر يحمل فوق رأسه ماسة "الأمل" أكبر الألماسات في ذلك الوقت، ولكن مناجم إفريقيا كشفت عن أسرارها، انفتحت حفر القارة العذراء عن كميات ضخمة من أحجار الألماس، أصبحت هناك كميات كبيرة، بل إن العمال كانوا يأخذون الصخور إلى بيوتهم دون أن يدروا ماذا سيفعلون بها بالضبط، فقد الألماس "الندرة" أهم مميزاته، ولكن عقلية بريطانية جبارة هي التي أعادت له هذه الخاصية من جديد، جاء سيسل رودس الاستعماري العتيد إلى جنوب إفريقيا وارتقى ليصبح رئيسا لوزرائها، ومن هذا المنصب مد نفوذه واستولى على كل مناجم الألماس في منطقة واسعة اشتق اسمها منه، "روديسيا" التي انقسمت فيما بعد إلى دولتين هما زامبيا وزيمبابوي، وأسس واحدة من أكبر شركات الألماس في العالم هي "دي بيرز" التي استولت على 90% من تجارة الألماس في العالم، هذه الشركة هي التي سحبت كل الألماس المتوفر واحتفظت به في مخازنها، تحكمت في تداوله وأسعاره في الأسواق، هي التي أعادت إليه أسطورة الندرة ورفعت أسعاره بشكل لا يستحقه، وهي التي بدأت حملة دعائية لتحويله إلى أسطورة وجعله رمزا للحب، وكانت أغنية مارلين مونرو جزءا من هذه الحملة، إضافة إلى الأفلام التي تصور الصراع الدامي حول الألماس الدامي في إفريقيا، فلا يوجد ماس في إفريقيا، لا يوجد فيها إلا الصخور الكربونية، ولكن الألماس لا يظهر إلا خارجها، كل هذا أسهم في صنع الأسطورة الخاصة لأحجار موجودة بكثرة. فرغم كل جهود الاحتكار انفتحت حفر الألماس في كل مكان في العالم تقريبا، وأصبحت الأحجار متوفرة ولكن المشكلة كانت في الشظف والتلميع، وفي سيبيريا تم اكتشاف العديد من مناجم الأحجار الصغيرة، ولجأت شركات الدعاية إلى اختراع خاتم آخر، لا يحتوي على حجر واحد، بل على العديد من الأحجار الصغيرة، وأطلق عليه خاتم توثيق العهود، خاتم للمتزوجين القدامى ليؤكدوا تمسكهم بهذا الزواج، مجرد حيلة لاستغلال العواطف البشرية. يقولون إن الألماس يحافظ على قيمته وربما يزداد ثمنه مع مرور الزمن ولكن هذا غير صحيح، لا أحد يجازف ويشتري ماسا قديما حتى ولو كانت فاتورة الشراء موجودة، وحتى الجواهرجي الذي باعه أول مرة لا بد أن يخفض الثمن، معظم الجواهرجية لا يستطيعون التفرقة بين الألماس الحقيقي والألماس الصناعي "الزركون" الذي تنتجه أمريكا، كلهم يتظاهرون أنهم يعرفون الفرق، وهم يعتمدون فقط على درجة النقاء، لا بد من وجود شوائب كربونية في الألماس الحقيقي، مهما كانت ضئيلة ولكن الزركون نقي وصاف لدرجة الخداع، من أجل هذا لا يوجد سعر ثابت للألماس، ولن يوجد في المستقبل، فهو خادع مثل بقية العواطف البشرية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف