فى الأسبوع الماضى كتبت عن البرامج التى تشجع على التخلف والدجل وتقحم استشهادات دينية خاطئة، وكيف أن مثل هذه البرامج تخلق بيئة حاضنة لكل تطرف وتعصب ينتهى بتشجيع الإرهاب والتعاطف مع الإرهابيين.
يوم الأحد الماضى شاهدت برنامج «العاشرة مساء» الذى استغرق ما يقرب من خمس ساعات فى حوار حول ما ادعاه البعض من كرامة لمن اعتبره البعض ولياً من أولياء الله الصالحين، وهذه الكرامة كما وصفوها تجسدت فى ظهور «صور» الأنبياء على رخام حوائط قبر هذا الولى!!
رغم أن الأستاذ «الإبراشى» كان يؤكد باستمرار أنه يقدم هذه الحلقة ليكشف عن أساليب الدجل والشعوذة التى يمارسها من يروجون لمثل هذه الخزعبلات، إلا أننى أرى أن مجرد مناقشة هذه الخزعبلات واستضافة من يروجون لها فى مواجهة من يرفضونها، أرى أن تأثير مثل هذه الحلقة يتساوى مع حلقة المذيعة التى روجت لخرافات تتعلق بعلاقة الجن بالإنسان.
الفرق الوحيد أن الأستاذ وائل الإبراشى كان يردد أكثر من مرة أنه ضد هذه الخرافات، بينما المذيعة التى قدمت الحلقة التى استضافت فيها من يدعى أنه متزوج من جنية، هذه المذيعة كانت تومئ برأسها مبينة دهشتها واقتناعها بهذه التخاريف.
هذه النوعية من البرامج تقدم خدمة هائلة ودعاية واسعة لكل هذه الخرافات وتدعم مزاعم الدجالين والمشعوذين وتمكنهم من الاستمرار فى استغلال البسطاء والأخطر أنها -أى هذه البرامج- ترسخ كل القيم المتخلفة وبهذا توفر البيئة المناسبة لنمو التعصب والإرهاب.
أعلم أن الأستاذ «الإبراشى» استضاف من يدافعون عن هذه الخرافات بمنطق التعامل مع القضايا الخلافية بإتاحة الفرصة المتكافئة لوجهات النظر المختلفة للتعبير عن آرائها باعتبار أن هذا هو الأسلوب المهنى المحترم إعلامياً.
والحقيقة أن مثل هذه الموضوعات لا يمكن بأى حال أن نعتبرها موضوعات خلافية، ينطبق عليها المنطق المهنى، فهذه موضوعات تمثل جرائم اجتماعية شأنها شأن السرقة والغش والإرهاب والبلطجة وغيرها من السلوكيات والموضوعات التى تمثل جرائم بحق الفرد أو المجتمع.
وفى مثل هذه الحالات لا يمكن أن نتصور مثلاً استضافة من يدافعون عن «الإرهاب» أو عن «السرقة» أو عن أى جريمة ليتحاوروا مع من يرفضون هذه الجرائم.
من استضافهم «الإبراشى» لم يكونوا فى حالة دفاع عن أنفسهم كأشخاص، لكنهم كانوا يدافعون عن جريمة الدجل والشعوذة، وكانت أصواتهم الزاعقة ومقاطعاتهم للضيوف المحترمين الذين يكشفون زيف هذا الدجل والشعوذة ومقاطعاتهم المستمرة وإقحام بعض الشواهد الدينية المغلوطة كان هذا كله سلاحهم الذى جعل أحد الضيوف المحترمين يلخص الموقف كله فى عبارتين.
العبارة الأولى كانت استشهاداً بقول مأثور لأحد الفقهاء «لو جادلنى مائة عالم لغلبتهم ولو جادلنى جاهل لغلبنى».. أما العبارة الثانية فقد قال هذا الضيف المحترم فى نهاية الحلقة: لقد خرج دعاة الدجل والشعوذة منتصرين لأنهم نجحوا أن تستمر الحلقة لعدة ساعات تطرح خلالها أدلة مغلوطة تروج للشعوذة والدجل.
يا حضرات الإعلاميين المحترمين الفرصة المتكافئة للحوار حول الموضوعات الخلافية قاعدة مهنية هامة، لكن الجرائم والسلوكيات المرفوضة اجتماعياً ليست موضوعات خلافية، حتى نسمح لمن يبرر هذه الجرائم بالدفاع عنها.
وفى مجتمعاتنا العربية بشكل خاص فإن الأغلبية من المواطنين البسطاء ورثوا أفكاراً متخلفة واقتربت هذه الأفكار والمفاهيم المتخلفة بتفسيرات مغلوطة للإسلام، ومهمة الإعلام فى هذه الظروف مهمة تنويرية تحتم الاختيار الدقيق لخطاب إعلامى يكشف زيف هذه التفسيرات الدينية الخاطئة ويدعو لإعمال العقل ويأخذ بيد الجماهير لتعيش فى هذا العصر وتحقق التقدم بالاعتماد على العقل والعلم امتثالاً لتوجيهات صحيح الدين وتحقيقاً لمقاصد الإسلام العليا.
تجديد الخطاب الدينى - يا سادة يا كرام- لا يعنى إفساح المجال فى الإعلام لبعض الشيوخ للحديث عن صحيح الإسلام، ولكنه يعنى قبل ذلك التوقف فوراً وبكل حسم عن إعطاء الفرصة للدجالين والمشعوذين ودعاة التعصب والتخلف ليبثوا سمومهم بمنطق الرأى والرأى الآخر!! فالتعصب والتخلف ليسا موضوعات خلافية، لكنهما جرائم لا يسمح بالدفاع عنها أو الترويج لها.