الأهرام
محمد سلماوى
إلغاء مفهوم العالم العربى!
هل صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بالوساطة فى أزمة قطر؟ لقد انتهت زيارة وزير الخارجية ريكس تيلرسون الى المنطقة دون أن تسفر عن أى تقدم فى حل الأزمة، فهل جاء تيلرسون بغرض الحل أصلا؟ إن الموقف الأمريكى لم يكن ملتبسا مثلما هو الآن، فقد وجدنا الرئيس دونالد ترامب يطالب بوقف تمويل الإرهاب ويبارك قرار مقاطعة قطر قائلا بصريح العبارة إن لقطر تاريخا طويلا فى تمويل الإرهاب، ثم يرسل وزير خارجيته الى الدوحة ليوقع اتفاقية جديدة مع الأمير تميم حاكم قطر تبرئ ضمنيا ساحة قطر من تمويل الإرهاب، فهى اتفاقية تحظر مثل هذا التمويل ومادامت قطر موقعة عليها مع الولايات المتحدة فهى إذن لا تمول الإرهاب، بل وصل الأمر الى أن يدعو تيلرسون دول المقاطعة نفسها الى أن تحذو حذو قطر وتوقع مثلها على الاتفاقية، وكأن قطر قد أصبحت بين يوم وليلة هى المثال الذى يحتذى فى محاربة الإرهاب، فما هى حقيقة اللعبة الجديدة التى تقوم بها أمريكا الآن فى العالم العربى، وهل هى فعلا تتوسط بين الأطراف المتنازعة بهدف رأب الصدع؟

للإجابة عن هذا السؤال ومحاولة استجلاء حقيقة الدور الأمريكى فى المنطقة، يحضرنى ذلك التحقيق الاستقصائي الضخم الذى نشرته كبرى الصحف الأمريكية «النيويورك تايمز»، عن العالم العربى بعد 13 عاما من التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق، والذى أفردت له الصحيفة صفحات مجلتها الشهيرة بالكامل، فى سابقة لا تتكرر كثيرا فى الصحف العالمية حيث تكرس الجريدة عددا بكامله لموضوع واحد فقط.

وقد عجبت أن أيا من صحفنا لم تتنبه لهذا التحقيق الذى يعتبر فى رأيى الأهم هذا العام، فتترجمه وتعيد نشره، إن لم يكن بإفراد عدد كامل له مثلما فعلت الجريدة الأمريكية، فعلى الأقل بنشر أهم أجزائه فى ملحق خاص، فبعيدا عن الانحيازات السياسية المعروفة لتلك الجريدة التى يسيطر عليها اللوبى اليهودى الأمريكى، جاء هذا التحقيق المتميز الذى حمل عنوان Fractured Land: How the Arab World Came Apart، أى «الأرض المحطمة: كيف تفتت العالم العربى»، على قدر كبير من الموضوعية، حيث أظهر بشكل واضح أن حالة التجزئة والتناحر والاقتتال التى يعيشها الوطن العربى الآن بدأت بالغزو الأمريكى للعراق عام 2003 والذى لم يتبعه الا الفوضى والخراب فى معظم أرجاء الوطن العربى.

وقالت الجريدة إن الغزو الأمريكى للعراق الذى تم بهدف «تحقيق الديمقراطية» دمر الدولة العراقية وقضى على مؤسساتها وخلق الظروف المواتية لولادة التنظيمات الدينية الإرهابية ونشر الفوضى التى حولت العالم العربى الى منطقة مشتعلة بالحروب الداخلية، وهو الذى «أعطى إشارة الانطلاق لعصر الإرهاب الذى يعيشه العالم الآن».

أما حصيلة خسائر ذلك الغزو بالأرقام فهى كالتالى: قتل من العراقيين مليون و455 ألفا و590 مواطنا، وقتل من الجانب الأمريكى 4801 ضابط وجندى أمريكى، ومن بقية العسكريين الذين شاركوا فى العدوان مع القوات الأمريكية 3478 عسكريا، أما التكلفة المالية على الجانبين فقد وصلت الى تريليون و856 مليونا و705 آلاف دولار وتقدر المصادر الدولية خسارة العالم العربى المادية بـ 830 مليار دولار، فضلا عن خسائر الأرواح الناتجة عن الفوضى التى عمت المنطقة وأدت الى الاقتتال الدائر الآن بين العرب وبعضهم البعض فى كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا.

لقد تحدثت مراكز البحث الأمريكية والدوائر السياسية الحاكمة منذ بدايات القرن الحالى عن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذى يعاد بمقتضاه تقسيم المنطقة بحيث تزال منها الدول الكبرى كالعراق وسوريا ومصر وتتحول الى دويلات صغيرة متحاربة، وتكون القوى الإقليمية الوحيدة فى المنطقة هى إسرائيل، وها نحن الآن نرى ذلك «الشرق الأوسط الجديد» يتخلق أمامنا بعد أن سخرنا طويلا من امكانية تحقيقه، ومن سخرية الأقدار أننا نحن الذين نقوم بتخليقه بأيدينا، فالذين يحاربون السوريين هم السوريون والذين يقاتلون العراقيين هم العراقيون، وهكذا فى اليمن وفى ليبيا، أما بالنسبة للجماعات الإرهابية التى كانت الولايات المتحدة أول من دعمها ومولها بطرق مباشرة وغير مباشرة فقد حصدت هى الأخرى من الأرواح ما فاق بعض الحروب، فرغم انها تشن حربها باسم الإسلام فإن 70% من ضحاياها من المسلمين، عوضا عما تسهم به فى تفتيت المجتمعات العربية ونشر الفوضى فى ربوع البلاد.

على أن أخطر ما يتعرض له العالم العربى فى الوقت الحالى هو ضياع مفهوم الوطن العربى ذاته والذى كان طوال فترة الخمسينيات والستينيات يمثل قاعدة القوة التى ينطلق منها العمل العربى على الساحة الدولية. لقد كان هناك كيان محدد المعالم يعرفه العالم باسم العالم العربى، وكانت له خصائصه الثقافية والاجتماعية التى ميزته عن المناطق الجغرافية الأخرى فى العالم، وإذا كانت وحدات ذلك العالم العربى هى الدول التى يتكون منها، فإننا نرى الآن تلك الدول تتهاوى وتسقط بعد أن كادت تنتفى عنها صفة الدولة الوطنية وبدأت كل دولة تنقسم على نفسها لتتحول الى كيانات اجتماعية لا تقوم على أساس الانتماء للوطن وإنما للدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق.

وليس أدل على ضياع مفهوم الوطن العربى من ذلك الغياب المشين لجامعة الدول العربية عن الأزمات التى يتعرض لها الوطن العربى وعن محاولات الوساطة التى تتبعها، فهل من المعقول، أو المقبول، أن تجرى الوساطة بين قطر ودول الخليج بواسطة الولايات المتحدة، ثم تشارك معها بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، ولا يكون هناك أدنى حضور للجامعة العربية فى هذا الخلاف الذى يقوم بين دول أعضاء بها ويلتزمون بميثاقها؟! قد لا يكون حضور الجامعة هو الذى سيحل المشكلة، لكن وجودها فى مثل هذه المواقف هو الذى سيبقى على المظلة العربية التى تظللنا جميعا، وحضورها هو الذى سيؤكد الصفة العربية التى يحاولون ضربها، وقيام التسوية تحت مظلتها هو الذى سيقول للعالم إنه رغم كل ما يحدث فإن هناك كيانا اسمه العالم العربى، لكنى لا أرى دولة عربية واحدة من الأطراف المتنازعة طلبت حضور ومشاركة الجامعة العربية وتفعيل دورها، أو حتى طالبت بمجرد حضورها جولات الوساطة هذه التى تقوم بها الولايات المتحدة، وذلك أن الدور الأمريكى لا يهدف الى الوساطة وانما الى ضمان تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد والذى لا يمكن أن يقوم إلا بضرب فكرة الوطن العربى ذاتها، فذلك المشروع لا مكان فيه لما كان يسمى فى الماضى العالم العربى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف