أخف وصف للحوادث الإرهابية التى وقعت فى سيناء والجيزة مؤخرا يمكن اختزاله فى كلمة واحدة وهى الجهل أو قلة المعرفة، ونظن أن الوضع الأمني لو استمر على هذا النهج فسوف تكون الغلبة للسفلة الذين يكمنون ويتربصون ويقتلون أولادنا.
لم يعد أحد منا يتحمل سماع أخبار استشهاد أولادنا بهذا الشكل، بعضهم غافل، وبعضهم لا يمتلك خبرة، وبعضهم غير مقدر لخطورة موقعه، وبعضهم تم اقتياده، وبعضهم غير مؤهل فنيا ولا نفسيا.
خطط أقرب للعشوائية، وقيادات تفكر بعقلية مكتبية، يعتقدون أن القوة فى الحشد، وفى العتاد، وفى البنية الجسدية، قد تصلح هذه القوة فى بعض الوظائف، لكن القوة التى يحتاجها الإرهاب هى القوة المعرفية.
قبل خمسين سنة كنا فى زيارة لبيت خالتى بقرية صفط الحرية، وكنا فى فصل الصيف، مثل سائر سكان القرى، جلسنا فوق سطح الدار، كنت فى بداية المرحلة الابتدائية، الظلام والسكون يخيمان على القرية، المشهد صامت إلا من همس خالتى وأمى، الخوف رسم أشكالا من حواديت العفاريت فى الفضاء الصامت شديد السواد، أدخلت قدماى فى بنطلون البيجاما، ويداي سحبتهما داخل الأكمام، بين لحظة وأخرى أخرج كفى وارفع ياقة البيجاما خوفا من أن يشدني عفريت أو جن، زحفت نحو أمى للاحتماء بها، قد تضربهم بقوة وتبعدهم عنى، بعد لحظات من الرعب، سمعنا هتافا وصراخا جماعيا، ارتعدت فى مكانى، لحظات وسمعنا بعض ما يقال: يا بنات الحور خلو القمر ينور، يا بنات الجنة خلو القمر يتهنا، يصاحب الغناء قرع بقطع من الأشجار على صفائح مياه أو حلل نحاسية، الحشد اقترب من الشارع الذى يضم بيت خالتي، عشرات من الشباب والنساء والأطفال والرجال، خالتي قالت:» القمر مخنوق»، بنات الحور تتشاجر على القمر، كل منهن تعشقه وتحاول أن تسحبه نحوها، يتشاجرن عليه، كل منهن تمسك فى عنقه، التفافهن حوله حجب وجهه ونوره، مخنوق مش عارف يتنفس، وأخذت تردد بصوت قلق مع أهل القرية: يا بنات الحور، تركت أمى وبدأت أزحف فى مجلسي متلمسا الأمان نحو خالتي التى تعرف قصة القمر، صور لى خيالي أن القمر يحتضر، وأنه سيموت فى السماء ويسقط على القرية، وربما تتعقبه بنات الحور بعد قتله، نبرات صوت خالتى فى ترديد التميمة بدأت ترتفع، أمى رددت خلفها بصيغة ألتماس ورجاء، التصقت بجسد خالتي، أولادها يرددون الالتماس والرجاء، تناغموا مع أهل القرية، أمسكت فى زراع خالتى، ربتت على ظهرى بحنان: متخفش ربنا هيسترها وهيسبوه فى حاله، غنى مع أهل البلد، أغمضت عيناى بعنف ورددت التميمة بصوت متحشرج.
نحن لسنا خبراء فى الأمن، ولا نمتلك إحساس الضابط أو الجندي أو الأمين أو صف الضابط الذى يقف مترقبا للموت بين لحظة وأخرى، فقط نحن نجلس ونراقب من خارج المشهد، ومن مقعدنا نرى ان هناك خللا، بعضه فى القيادات التى تدير القوات، وبعضه فى التدريبات، وأن الخلل الأساسي فى تعريف وتوظيف القوة، نحن نمتلك قوة حشد، وقوة عتاد، وقوة لياقة، لكننا لن نمتلك قوة المعرفة.