التحرير
أشرف الصباغ
خوسيه ساراماجو في نقد الفصام
عندما علم الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماجو (1922 - 2010) بخبر منحه جائزة نوبل في الآداب لعام 1998 أعلن على الفور: "إذا كان شرط منحى جائزة نوبل هو التخلي عن قناعاتي التي آمنتُ بها طوال حياتي، فأنا أعلن مسبقا بأن تلك الجائزة لا تلزمني". ساراماجو هذا كان شخصية مريبة فعلا، فهو منذ زمن بعيد حاز على لقب "المشاغب الراديكالي"، ونال وسام "معكر صفو المجتمع"، وربما لهذين السببين تحديدا لم يكن أحد يحبه لا في البرتغال ولا في أوروبا. هذا الرجل كان يشبه الغراب الأبيض في واقعنا الآني بعد انهيار العالم، أو بالأحرى "تفكيك العالم". وربما يستقبل البعض تفسير "انهيار العالم" بتوجس ويطلقون اتهامات فارغة. ولكن الحقيقة أن ساراماجو فعلا كان شخصًا عجيبًا وغير عادي، وهذا ما جعلنا نشبهه بالغراب الأبيض في زمن ينهار بين أيدينا وأمام أعيننا، وننزلق نحن معه بهدوء عجيب كأننا في حلم، أو بشكل أدق تحت تأثير "مخدر" جيد النوعية. ساراماجو ببساطة، كان يحب التمسك بتلك الحقائق القديمة! التي عفا عليها الزمن، والتي اتضح مؤخرا أنها غير صادقة بل وتشكل خطورة على أمن الفرد وأمن المجتمع في آن واحد! الأهم من كل ذلك أن تلك الحقائق والقناعات صارت قديمة ومهلهلة -كما يعلن الكثيرون اليوم، خاصة الذين كانوا في يوم ما من أصحابها- ولا تتساير مع الموضات والتقاليع الفكرية الجديدة. كل ذلك يجعل من ساراماجو وأمثاله عرضة للسخرية والإشفاق في آن واحد، يجعلهم مثل بهاليل المتصوفة، والمثاليين الذين لا يستطيعون الانضمام إلى قافلة البراجماتيين في العالم المعاصر. ومع ذلك فالغراب الأبيض وضع أمام لجنة تحكيم جائزة نوبل تلك المقابلة الحادة دون وضع أي اعتبار لنظراتهم الساخرة، بل وواصل ترسيخ أفكاره والتمسك بوجهات نظره والتدليل على صحتها، أو على الأقل إثبات أنها ما زالت صحيحة وصالحة رغم الانهيار التام المقبل. ساراماجو كعادته دائمًا، لم يكن يخشى أن يبدو مثيرًا للسخرية وهو يلقي بحديثه أمام لجنة الجائزة، ذلك الحديث الذي كان يعتبر بحق إحدى آيات الحكمة والكبرياء للبسطاء من البشر الذين كانوا وما زالوا أبطال رواياته، ولكن يبدو أنه لم يكتف بذلك فبعد الاحتفال الرسمي بمنح الجائزة وفي أثناء وجوده حول مائدة الطعام، وبين الجميع هبَّ ليلقي بذلك النخب: "فخامتكم، جلالتكم، السيدات والسادة.. اليوم، بالضبط، يكون قد مر خمسون عامًا على توقيع ميثاق حقوق الإنسان، ومن ثم فهذه المناسبة تجد مزيدًا من التقدير في العالم كله ويتم الاحتفال بها على أوسع نطاق. ولكننا نعرف جميعًا كيف يخمد اهتمامنا بهذه الموضوعات نظرًا لانشغالنا بأشياء كثيرة يومية وأكثر إلحاحًا. ولذلك، وأنا هنا لا أخشى أن أخطئ، يمكن التنبؤ بأن الاهتمام العام بهذه المناسبة وبما تحمل من رموز ومعان سوف تبدأ في الخمود والتلاشي قريبًا. لستُ ضد الاحتفال بمثل تلك المناسبات، وأنا نفسي، وفي حدود إمكانياتي المتواضعة، شاركتُ فيها وألقيتُ الكلمات التي تليق بمثل هذه المناسبة، وعلى اعتبار أننا ما زلنا نحتفل بهذا التاريخ، أود لو أنتهز هذه الفرصة لأضيف إلى كل ما قيل بعض الكلمات.

إن حكوماتنا خلال نصف القرن المنصرمة، وكما أتصور، لم تلتزم تماما بواجباتها نحو حماية حقوقنا الإنسانية، على الرغم من أن ذلك كان يعتبر واجبها الأخلاقي. فما زال الظلم يواصل نموه وازدياده، وما زال عدم المساواة يتعمق، وتتضاعف الفظاظة والجهل والجلافة، ويزداد الفقر والعوز ويتناميان. إن الإنسانية كما لو كانت قد أصيبت بالفصام، فهي ترسل إلى الكواكب البعيدة بتلك الآلات العجيبة من أجل الحصول على عينة من الصخور، ولكنها في ذات الوقت تنظر بلا مبالاة إلى الملايين الذين يموتون من الجوع. لقد أصبح الوصول إلى المريخ أسهل وأبسط من سماع أنين ذلك الإنسان الذي يقف بالضبط إلى جوارك. كل ذلك يحدث لأن الكثيرين لا يلتزمون إطلاقًا بواجباتهم. وأول هؤلاء هي الحكومات: فهم إما لا يعرفون كيف يفعلون ذلك، وإما لا يستطيعون، وإما لا يريدون، وإما لا يسمح لهم بذلك هؤلاء الذين يحكمون العالم بشكل فعلي، أصحاب الشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، تلك السلطة التي ليس لها أية علاقة بالديمقراطية، والتي قامت مؤخرا بتدمير البقية الباقية من المثل العليا للديمقراطية. أما نحن، المواطنين، فلا نقوم بواجباتنا أو التزاماتنا. في هذه الحالة لا يمكن أن توجد حقوق إنسان أو تصان على النحو الذي يتفق مع الواجبات والالتزامات، بل ولن توجد أيضا أية أسس تجعلنا نفترض أنه خلال نصف القرن المقبل سوف تقوم حكوماتنا بما لم تقم به طوال الخمسين سنة الماضية والتي نحتفل بمرورها الآن. سوف نأخذ نحن، المواطنين العاديين البسطاء، على عاتقنا ذلك المطلب. وبنفس هذا العناد والتوهج اللذين نطالب بهما بصيانة حقوقنا والحفاظ عليها، سوف نتمسك في إصرار بمطالبتهم بالوفاء بتلك الالتزامات والتي دونها تصبح حقوقنا مجرد كلمات فقط. ومن الممكن، في هذه الحالة، أن يصبح العالم أفضل بكثير". الغراب الأبيض بين الغربان السود في الواقع وفي الأساطير أيضًا، قال، وما زال يقول للجميع: أنا ابن البرتغاليين البسطاء ليست لي علاقة بالإمبراطورية البرتغالية الاستعمارية. بسيطًا ولدت وبسيطًا عشت -آمنت بقناعاتي من خلال واقعي، وهأنذا أمامكم بعد انهيار الإمبراطوريات والأفكار الدوجمائية، وفي ظل سيطرة القطب الواحد، وإرهاب الدولة الواحدة، وتضخم الذات على غرار حكام روما القديمة، وسيطرة الشركات العابرة للقوميات- أعرب عن إصراري عليها لأنها ما زالت صالحة طالما هناك هذا الكم الهائل من الفقراء والجوعى والمشردين، صالحة لأنها من الواقع الأرضي وليست من المريخ!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف