وأصل الحكاية أن لويس جريس دعانى لحضور الاحتفال بعيد ميلاد سناء جميل بالمسرح القومى. ترددت: هل أقول إن سناء جميل توفاها الله فى 22 ديسمبر 2002 وتكتمل 15 سنة على رحيلها فى ديسمبر المقبل. قبل النطق بما كنت متردداً فى قوله. شرح لى أن الاحتفال بعيد ميلادها طريقة جديدة لكى نتذكرها ونقضى ليلة معها.
ذهبت مع أننى نادراً ما ألبى هذه الدعوات. حرصاً على الوقت. فالمتبقى منه أقل من القليل، وتعقيدات الحياة فى قاهرة 2017 تجعل الانتقال من مدينة نصر للمسرح القومى بميدان العتبة التى لم تعد خضراء مغامرة كبرى يمكن أن أستهلك ليلة. بمعنى أننى إن قضيت فى المسرح ساعتين يمكن أن أصل فى أكثر من ساعتين وأعود ربما فى ثلاث ساعات.
الهاجس الذى دفعنى للحرص على الذهاب أن لدىَّ ما كنت أود أن أقوله لها فى حياتها. ولكننا لم نكن أصدقاء. ولقاءاتى بها نادرة وفى سياق اجتماعى لم يكن يسمح بالكلام والأخذ والعطاء. وما كان لدىَّ وكنت أود أن أحكيه لها ما سمعته من نجيب محفوظ عن أدائها دور نفيسة فى فيلم: القاهرة 30، وما حكاه لى صلاح أبو سيف عن اختيارها الدور وما قالته لى فاتن حمامة عن ملابسات الاختيار.
ومن باب التذكير أقول إن تصوير الفيلم وكان اسمه: القاهرة 30، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ: بداية ونهاية جرى سنة 1960، وأن عرضه تم فى العام التالى 1961، وأنها أدت فى الفيلم دور نفيسة واسمها فى الرواية: نفيسة كامل على.
عدت للرواية بحثاً عن نفيسة. واستعنت بكتاب مصطفى بيومى: الدعارة والعاهرات، وهو جزء من موسوعة وصف مصر فى أدب نجيب محفوظ، الصادر عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع 2011، وكان مسئولاً عنه الدكتور وحيد عبد المجيد.
حسب الرواية فإن نفيسة كانت فى الثالثة والعشرين من عمرها، وكانت بلا مال ولا جمال ولا أب. تحسن الخياطة وتخيط كثيراً لجاراتها محبة ومجاملة ولا تدرى بأساً فى أن تتقاضى على تعبها مكافأة. تبدأ الأحداث فى الرواية بموت الأب الذى كان فقيراً لا يملك سوى راتبه. وتواجه الأسرة ظروف ما بعد رحيل العائل وصاحب الدخل الوحيد فى العائلة كلها.
يكتب نجيب محفوظ:
- وتضاعف حزنها على أبيها فبكته بكاء حاراً وبكت نفسها فيه، مات الفقيد المحبوب، فمات بموته أعز ما فيها. ولأنها لم تكن جميلة كان يقول لها: الخفة أنفس من الجمال كأنه يعزيها عن دمامتها. كانت نفيسة تعانى فقرا وقبحا ويتما.
نعرف من أحداث الرواية والفيلم التى قدمها أن سلمان جابر سلمان ابن البقال وصبيه كان أول المغازلين، وأن التعيسة استجابت واستسلمت. وأن صاحب جراج السيارات محمد الفُل، كان ثانى المغازلين، وحلمت بالزواج منه، وإن كان الأمر توقف عند حدود علاقة مدفوعة الثمن. وجاء العجوز الستينى الذى اصطادها من محطة مصر. وباقى القصة معروف عندما يلقى القبض عليها فى بيت مشبوه، ويتصل الضابط النوبتجى بشقيقها الأصغر حسنين، الضابط أيضاً ويأخذها من القسم إلى النيل لكى تغسل عارها وعارهم بالانتحار.
تختلف نهاية الرواية عن الفيلم، فالرواية تتوقف عند انتحار نفيسة، لكن الفيلم ينتهى بانتحار الضابط الذى كان يأمل فى مستقبل يحرره من الفقر والعوز والاحتياج وينقله نقلة اجتماعية كان يحلم بها كثيراً.
قال لى نجيب محفوظ إن أداء سناء جميل لدور نفيسة يوشك أن يتفوق على الصورة التى رسمها لها فى الرواية. اعتبرت قوله تواضعاً، لكن الرجل شاهد الفيلم كعادته فى حفلة من حفلات الظهر بالسينما. وكان يذهب إليها بسبب أن دور العرض كانت مكيفة فى مدينة لم تكن عرفت بعد تكييف المنازل والمكاتب والكثير من المحال العامة. وكان الرجل متأثراً بأداء سناء جميل لدور نفيسة الذى أضاف الكثير للنص الذى كتبه. وهى شهادة من النادر أن يقولها روائى عن شخصية أبدعها، ثم ظهرت فى شكل مختلف عن إبداعه لها.
خلال تصوير فيلم: المواطن مصرى، المأخوذ عن روايتى: الحرب فى بر مصر. فى أوائل تسعينيات القرن الماضى، حرصت على أن أكون موجوداً خلال التصوير، لأنها كانت التجربة الأولى بالنسبة لى، وكنت سعيداً وأنا أرى النص الذى كتبته يتحول لصوت وصورة وحركة.
بين أوقات التصوير كانت الثرثرة تساعدنا على قضاء الوقت. خاصة عندما نكون خارج القاهرة فى بعض قرى الفيوم ننتظر انتهاء «الكاست» من إجراءات الصوت والإضاءة. قال لى صلاح أبو سيف ضمن ما قاله إنه فكر أول ما فكر فى دور نفيسة فى فاتن حمامة. وأنه اتصل بها وأبلغها، لكنه أخطأ - دون أن يقصد ـ عندما قال لها إن عنده دورا بديعا وغير عادى ويمكن أن يكون تاريخياً، لكنه «سيوحشها» قليلاً.
اعتذرت فاتن حمامة. ما لم يقله لى صلاح أبو سيف إن فاتن حمامة كانت أقرب لهنرى بركات من صلاح أبو سيف. وكانت تشعر بالأمان عندما تعمل مع بركات وأن اعتذارها عن الدور كان نهائياً ولم تترك الباب موارباً لأى مفاوضات أو كلام. فذهب تفكيره فوراً إلى سناء جميل لتلعب دور نفيسة. الذى كان دوراً محورياً فى أحداث القصة. وفى تاريخ سناء جميل الفنى أيضاً.
بعد ذلك بسنوات كثيرة وعندما فكرت فاتن حمامة فى أن تحول روايتى: 24 ساعة فقط لعمل فنى، تصورت أنها تفكر فى فيلم سينمائى، ولكن تفكيرها اتجه لمسلسل جديد، كانت ترى أن التليفزيون سحب المشاهدين من السينما. وأن من يذهب لدار العرض لمشاهدة فيلم حالات استثنائية. وأنها تفكر فى مسلسل تليفزيونى مختلف عما نشاهده. ألا يخرج عن 4 سهرات طويلة. أما مسلسلات الثلاثين حلقة التى نراها فى كل لحظة فلم تكن تحبها.
سألتها عن نفيسة وحكاياتها. فوجئت بأنها نفت لى القصة من أولها لآخرها. وعادت فى نفس الجلسة لتؤكد أن ما قلته لها لم يحدث. شهادة أنقلها عن رموز ثلاثة رحلوا عن عالمنا. لذلك فالدقة والأمانة والحرص والموضوعية «فرض عين».