هل تذكرون الجريمة الإسرائيلية في 21 اغسطس 1969 عندما جرت محاولة لإحراق المسجد الأقصي المبارك والتي قيل إن مرتكبها مختل عقلياً.. يومئذ كان لم يمر علي هزيمة يونيو المرة سوي عامين.. وكان اليأس مسيطراً علي الإنسان العربي.. ومع ذلك انتفض العالم العربي كله من مشرقه إلي مغربه.. وتداعت الدول الإسلامية إلي مؤتمر المغرب اتخذ مجموعة قرارات مهمة بعد مناقشات ساخنة.. كانت مقدمة لمبدأ عرفته السياسة العربية إلي وقت غير بعيد وهو أنها تحدد علاقاتها مع أي دولة بناء علي موقفها من قضية القدس.. أين هذا من ردود الفعل العربية الواهنة والمتباينة من إغلاق الأقصي ومنع الصلاة وعدم رفع الأذان فيه لمدة يومين وهو إجراء لم يشهده المسجد المبارك منذ 40 عاماً.. وقيل منذ 1967 وقيل منذ 800 عام.. وأياً كان فإن هذا إجراء خطير في حد ذاته وفي توقيته وفيما يريد الإسرائيليون أن يتخذوه بعد الاشتباك المسلح الذي وقع في باحات الأقصي يوم الجمعة الماضي وأدي إلي استشهاد ثلاثة فلسطينيين وقتل اثنين من الجنود الإسرائيليين.. وفور ذلك وقع المسجد المبارك والقدس العربية كلها تحت حصار خانق لم يرفع كاملاً بعد.. بل إن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يريد أن يستغل هذا الاشتباك في اتخاذ سلسلة إجراءات لتطبيق خطط معدة سلفاً لتهويد القدس الشرقية وإفراغها لأقصي قدر ممكن من سكانها الفلسطينيين.
الأهداف الإسرائيلية نحو الأقصي والقدس ليست جديدة ولا طارئة.. يقول "نظمي الجعبة" أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت الفلسطينية في دراسة حديثة له: في الحقيقة لم يتأخر الاحتلال ولا لدقيقة واحدة في تنفيذ سياساته في القدس وكأن الرؤيا إلي مستقبل المدينة كانت جاهزة ومحضرة بعناية قبل احتلال المدينة بأعوام.. حتي انها لم تنتظر انتهاء المعارك في حزيران/يونيو الملتهب في سنة 1967 لتكون قد بدأت بفرض "حقائق" علي أرض الواقع رسمت خلالها جزءاً أساسياً من واقعها الحالي.. وذلك في محاولة لحسم أمر مستقبل المدينة.. وقد تكون الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه القدس من أكثر السياسات وضوحاً وهي ليست بحاجة إلي كثير من التحليل.. كما أن اسرائيل لم تعد تناور في هذا الموضوع "مجلة الدراسات الفلسطينية" العدد 111 صيف 2017. ص 140".
ادعاء وتزييف
أهمية هذا الكلام أنه يفضح الادعاءات والتزييف الذي راح الإعلام الإسرائيلي يردده منذ يوم الجمعة الماضي متجاهلاً في ذلك كل المقولات التي تعلنها إسرائيل رسمياً أن تضفي عليها صيغة قانونية من تشريعها.. وقد صيغت هذه المقولات الإسرائيلية في وثائق رسمية وفي خطط عديدة معلنة.. فالإسرائيليون أعلنوا منذ يونيو 1967 أن القدس مدينة موحدة غير قابلة للانقسام وهي عاصمتهم إلي الأبد.. أما خطط الاستيطان وتوسيع مساحة المدينة مع محاولة خفض سكانها العرب إلي أدني حد ممكن فهي متعددة ومحددة السنوات ومعلنة الأهداف وتفصيلات هذا كله تتضمنها عشرات بل مئات الكتب والدراسات العبرية والعربية وغيرها.. ولعل أخطرها وأجدرها بالذكر هنا "مخطط القدس 2020" أي بعد عامين فقط من اليوم والذي يهدف -ضمن ما يستهدف- إلي أن تكون نسبة السكان الفلسطينيين في القدس الموحدة 20% فقط.. لكن هذا المخطط يتعثر بسبب مقاومة المقدسيين.
ولا يقل إفكاً عن هذا الادعاء منذ اشتباك يوم الجمعة الماضي بأن الإسرائيليين لم يفكروا ولم يدعوا يوماً إلي هدم المسجد الأقصي لإعادة بناء الهيكل الثالث.. ومثل هذا الادعاء معناه أنه ليس لنا عقول.. الآن هذه الدعوة ذائعة ومنتشرة حتي قبل إقامة الكيان الصهيوني في 1948 وتجد جذورها في كتابات مفكرين صهاينة منذ القرن التاسع عشر.. ومع ذلك لنكن مع الكذاب حتي باب الدار ولنتابع من اليوم ونرصد بدقة كل كلمة أو دعوة أو خطوة لهدم الأقصي بما في ذلك الإجراءات التي تحاول اسرائيل أن تطبقها في الحرم القدسي الشريف منذ اضطرت يوم الأحد الماضي إلي إعادة فتحه أمام المصلين بعد أن فرضت قيوداً ووضعت ترتيبات تزعم أنها توقف دخول أي سلاح إلي ساحات الأقصي مثل نصب أجهزة تفتيش وكاميرات مراقبة إلكترونية لمراقبة الداخلين للصلاة.. وقد كتب الصحفي المعروف "ناحوم برنياع" يوم الاثنين الماضي أن البوابات الإلكترونية لن تجدي نفعاً. وانتقد قول نتنياهو إن البوابات الإلكترونية لن تزال.. وحذره من أنها ستؤدي إلي حشر المصلين أمامها.. ما سيؤدي إلي ضجة ستجبر الشرطة علي السماح للجموع بأن تتدفق وعندئذ فإن من يريد إدخال سلاح ومواد قتال سيحصل علي فرصته بسهولة.. فما الذي سيقوله نتنياهو والسؤال للصحفي الإسرائيلي عندما تبين أن سلاحاً دخل الحرم علي الرغم من البوابات الإلكترونية فمن سيتهم عندئذ؟!
رفض ومقاومة
وبالطبع هناك صحفيون إسرائيليون آخرون يرون عكس هذا ويقولون إن نصب البوابات الإلكترونية تأخر كثيراً ويطالبون بعدم التراجع عن نصبها.. لكن الأهم من ذلك هو موقف المقدسيين العرب الذين استجابوا لنداء علماء الدين بعدم دخول الأقصي في ظل هذه القيود.. وأفتي أحد العلماء بأن الصلاة في ظل هذه البوابات باطلة.. وكانت الاستجابة لهذا كاسحة ليس من المصلين فقط بل من حراس الأقصي والعاملين فيه.. وأدي المصلون صلواتهم بعيداً عن البوابات. ما نتج عنه تدخل رجال الأمن الاسرائيليين الذين استخدموا الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع.. مما ألحق عشرات الإصابات بالمصلين خارج باب "الأسباط" وهذا يثير المخاوف مما يمكن أن يحدث غداً الجمعة. حين سيتدفق عشرات الآلاف لصلاة الظهر. ويرفضون الخضوع للتفتيش الإلكتروني مما سيؤدي إلي احتكاكات وأعمال عنف. وربما يسقط قتلي وجرحي.
فلا أحد يستطيع أن يحكم أو يتحكم منذ الآن في موقف ملتهب في الأقصي الذي وصفته صحيفة إسرائيلية بأنه المكان الأكثر تفجراً في الشرق الأوسط. ووصفته أخري بأنه المكان الأكثر حساسية من ناحيتين سياسية ودينية "إنه مكان يتجمع فيه جمر يتلظي وينتظر الانفجار ليحرق كل محيطه".
هذا الموقع القابل للتصاعد بل والانفجار يشير بوضوح إلي أن الاشتباك المسلح الذي وقع يوم الجمعة الماضي ليس حدثاً طارئاً. بل ستكون له عواقب ونتائج قد لا يستطيع أحد حسابها. وكل هذا يؤكد ما لا يحتاج إلي تأكيد وهو أنه لا توجد قضية بمفردها اسمها المسجد الأقصي فقط. فهو جزء من قضية أكبر هي القدس وفلسطين ككل. والسؤال هنا هو أين الدول العربية من هذا كله؟ لا أعرض لأمر لا أستطيع أن أتناول كل جوانبه.. فقد أصبحت كل دولة عربية غارقة في شأنها الخاص. أو في مشكلاتها وخلافاتها مع دول عربية أخري. لذلك تباينت ردود الأفعال العربية منذ يوم الجمعة الماضي بشكل غريب. وهي بصفة عامة ردود فعل غير كافية. وبعضها كسر حواجز كانت "حمراء" وسارع إلي الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي ليدين ما حدث! ويكفي أن هذا حدث من جانب رئيس السلطة الفلسطينية. ووصفت صحيفة "إسرائيل اليوم" الموالية لنتنياهو هذه الخطوة بأنها شاذة ونسبت إلي مصادر فلسطينية لم تسمها أن هذا "الشجب" من جانب رئيس السلطة الفلسطينية كان نتيجة ضغط شديد "من جانب مسئولين كبار في وزارة الخارجية الأمريكية والقصر الملكي الأردني". ولله الأمر من قبل ومن بعد. أما الأقصي فله رب يحميه. وشعب يحرسه. واسلمي يا مصر.