ما حدث لمصر ومع مصر وفى مصر شىء لا أستطيع تشبيهه إلا بشخص يملك هاتفاً محمولاً. مع الوقت يظهر فى السوق جهاز أحدث. عندها يستبدل هاتفه بالجهاز الأحدث. لكن مع الإبقاء على الشريحة نفسها. ينقلها من الجهاز القديم إلى الجديد. هذا بينما الشريحة لا تحتفظ إلا بالمعلومات السابق تسجيلها. يكرر الشىء نفسه كلما ظهر جهاز جديد. إذا استمر فى ذلك لمدة 60 عاماً بالشريحة نفسها دون تغيير أو تحديث للمعلومات «السوفت وير». سيكتشف بعد ذلك أن معظم الأسماء المدونة لديه ستكون قد غادرت الحياة. أصبحت فى سجل الوفيات. من تبقى سيجد منهم من غيّر رقم هاتفه... وهكذا.
هذا هو تحديدا ما حدث لمصر. بعد ثورة 23 يوليو تم تغيير الشريحة المصرية إلى شىء مختلف تماما. بعد عبدالناصر جاء السادات. كانت لديه توجهات مختلفة. تغييرات فى العديد من المجالات. بالرغم من ذلك لم يراجع الشريحة. أبقى على الشريحة القديمة كما هى.
هكذا فعل مبارك أيضاً. لم يقترب من الشريحة. لم يراجعها بهدف تحديثها. ظللنا نلف وندور حول محتوياتها. مع الإبقاء على ما جاء به عبدالناصر لمعالجة مشاكل عصره بوسائل عصره المتاحة فى ذلك الوقت. هكذا ظل الأمر من رئيس إلى رئيس. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من هذه الشريحة.
الدولة هى جهاز التليفون. الشريحة هى المبادئ والمفردات التى استقرت عليها الدولة ذات يوم منذ 60 عاماً. استقرت الشريحة بوسائلها القديمة فى أذهان الشعب وقبلهم الحكام. كأنها قرآن. لا مراجعات للوسائل فيها. مع الإبقاء على المقاصد كلها. الاشتراكية، مثلا كأسلوب، لم نستبدل بها اقتصاد السوق بشكل معلن. كما حدث فى أوروبا الشرقية والصين وكل الدول التى تبنت الاشتراكية. الاتحاد السوفيتى أو روسيا وكل الجمهوريات التابعة لها. تراجعوا. غيروا الشريحة. ليس انتقاما من المواطن، ولكن إنقادا له ورحمة به. شاهدوا ما أدت إليه الشريحة الأولى. هى أدت لما أدت إليه. فى التعليم والرعاية الصحية. فى الزراعة والصناعة والسكن. فى معيشة المواطن بصفة عامة. هم لم يغيروا الشريحة مللاً. غيروها لأنهم وجدوا أن الصيغة المتبعة لا تحقق أمانيهم. لا تتماشى مع متطلبات العصر. لا تحقق شرط التطور. بالعكس، تباعد بينهم وبينه.
الشريحة هذه تحمل فقط الوسائل البالية وليس المقاصد. هم تمسكوا بالوسائل وصرفوا النظر عن مقاصد عبدالناصر نفسه.
الصيغة الماضية جاءت بما يبرر تطبيقها. فيها ما يبرر الاستيلاء على أموال الغير بفرض الحراسات- الاستيلاء على الأراضى. لذلك فإن الرأسماليين والمستثمرين صُنفوا كلصوص. أما أصحاب الأراضى فصُنفوا مصاصى دماء الشعب والفقراء. مع ذلك أبقينا على المبررات كلها فى ضمير الشعب. بينما تحايلنا على الوسائل. مبررات. لم نسع يوماً لتغييرها. أصبحت لدينا وزارة تدعو للاستثمار الذى كان مؤثماً. أصبحت لدينا قوانين تسمح بأن تتملك آلاف الأفدنة لكن من خلال شركة تضم أولادك وزوجتك مثلاً. الأمثلة كثيرة. القطاع العام، مثلا، صار الآن قطاع الأعمال. أبقينا عليه. نعم بادرنا إلى خصخصته ذات يوم. تراجعنا بعدها فى ذلك. عدنا اليوم إليه بحماس. اليوم نبحث عن إنتاج سيارة قطاع عام عكس العالم كله. لم تكفنا تجارب رمسيس والنصر للسيارات. نجتمع لحل مشاكل كفر الدوار والمحلة ليستمروا بشكل أو آخر. بعد أن عجزت أمام مثل هذا النمط فى الاستثمار حكومات العالم أجمع. كلها عن النجاح بالقطاع العام. أما كلمة «خصخصة» فهى أصبحت منبوذة الآن. اخترعنا وسائل لإقامة القطاع العام من خلال مسميات مستجدة.
الأمر ينطبق على القطاعات جميعاً. الزراعة. الصناعة. الرعاية الصحية. جميعها تحتاج إلى استبدال الشريحة. ومواكبة أسباب التطور.