محمد ابو الفضل
لغز الليونة المصرية مع حماس
المتابع للعلاقة بين مصر وحماس يكتشف أنها هادئة حاليا وتتطور إلى دفء سياسى وأمنى واقتصادى يسير عكس التوجهات العامة التى تقف بالمرصاد للإخوان المسلمين والمنتمين إليها بشتى أطيافهم، ما جعل البعض يتساءل عن سر اللغز الذى جعل التعامل بخشونة مع الجماعة ينقلب إلى ليونة مع الحركة الإخوانية الفلسطينية.
ما يجرى فى غزة وسيناء والمحيط الإقليمى يفسر جانبا من هذا اللغز، فالأوضاع الإنسانية فى القطاع تتدهور بطريقة سريعة، ومصر قدمت مساعدات إنسانية ومادية ووقودا خلال الأيام الماضية، ووعدت بتطوير وفتح معبر رفح بصورة منتظمة، ليس لأجل عيون حماس، لكن لتخفيف العبء على المواطنين الفلسطينيين ومنع انفجار أصبح محتملا فى غزة، بعد قيام إسرائيل بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية باتخاذ حزمة إجراءات جديدة وقاسية.
الغرض من هذه الإجراءات محاولة تضييق الخناق على حماس وإرهاقها بمشاكلات مضاعفة لوقف المشاغبات مع إسرائيل والتسليم بقيادة ونفوذ الرئيس محمود عباس، الذى تجاهل وسط مخاوفه من طموح وجموح الحركة أن خطواته قد تفضى إلى خنق غزة، الأمر الذى ترفضه مصر، لأن تداعياته الأمنية تتجاوز حدود القطاع، وأى انفجار سكانى سيؤدى إلى ترحيل مئات الآلاف إلى سيناء فى وقت بالغ الحساسية ولا يحتمل ترحيل هذا النوع من المشكلات ورميها على عاتق مصر.
قوات الأمن تخوض معركة ضارية لمكافحة الإرهاب فى سيناء، وأى تغير هيكلى فى المعادلة الحالية يقود إلى خلل كبير فى الترتيبات، وهو ما تسعى إليه بعض القوى المعادية لمصر، فهناك من يتربص لوقف جهودها لتجفيف منابع الإرهاب، ومن يملك سيناريوهات جاهزة لنقل الأزمة الإنسانية من غزة إلى سيناء ويقوم بتحركات كثيرة لهذا الغرض، أملا فى تكبيل مصر بنوع جديد من الأزمات يحول دون تصديها لدول تعمل على نشر الإرهاب فى المنطقة وتريد منع تمدد نفوذها إقليميا.
هذا التصور لم يكن غائبا عن ذهن القيادة السياسية، لذلك قبلت على مضض التفاهم مع حماس ومساعدتها لتخفيف حدة الأزمات فى غزة، حفاظا على الأمن القومي، الأمر الذى فهمته خطأ بعض الدوائر واعتبرته تطورا تطوى به مصر مراراتها مع حماس وتفتح به صفحة بيضاء فى سجل العلاقات معها، فى حين تعرف الحركة جيدا الأسباب التى أدت إلى الوصول لهذا المربع.
اللافت أن البعض اتخذ من هذا التطور تكئة للزج بحركة فتح، وقالوا إن الدفء الذى تظهره القاهرة مع حماس يخصم من الرصيد التاريخى لفتح، الذى تعمل مصر للحفاظ عليه وعدم المساس به منذ زمن، مع ذلك هناك من لا يزال يعتقد أن التنسيق مع حماس وتفاهماتها مع القيادى الفلسطينى محمد دحلان التى جرت فى القاهرة مؤخرا، طعنة موجهة ضد فتح والرئيس أبومازن شخصيا الذى زار مصر أوائل يوليو الحالى وسمع من المسئولين حقيقة الدور الذى تقوم به ودوافعه الأمنية والسياسية والاجتماعية والتشديد على احترام سلطته الوطنية.
فى تقديرى المشكلة تكمن فى أن مصر تتعامل بشكل واقعى مع ما يجرى فى غزة، بينما تتحكم الحسابات الأيديولوجية فى مواقف آخرين، وهو ما دفع القاهرة لتجاوز بعض التصرفات البروتوكولية التى كانت تتم فى الماضى بشأن التنسيق المسبق مع أبومازن، لأن سلطته ليس لها سيطرة عملية على القطاع أو حتى وجود مؤثر فيه، كما أن المسألة تتخطى الجوانب الدبلوماسية، بعد أن شارك الرئيس الفلسطينى فى تعميق الجراح فى غزة بموجب منع تزويده بالوقود.
الواضح أن أبومازن عندما رفض الاستجابة للتحذيرات التى وجهت إليه بأن هذه الحالة يمكن أن تقود إلى انفجار وتكرس الفصل بين القطاع والضفة الغربية، قامت مصر بالتواصل مع حماس لحل الأزمة الإنسانية وعدم الاعتداد بتقديراته، ودراسة مجموعة من التحركات تمنع الوصول إلى نقطة الانفجار، فى ظل سيناريوهات عديدة يتم تداولها لتحديد مصير غامض للقضية الفلسطينية.
ورغم توضيح كل الجوانب وتأكيد محورية هذه القضية وأهمية المصالحة الوطنية، لم تتوقف الدعاية التابعة لبعض أجنحة فتح للتحريض ضد مصر، التى أصبحت واقعة بين افتراءات هؤلاء وبين أكاذيب تخرج من جيوب تنتمى لحماس تؤكد استمرار علاقتها مع قطر ولم ولن تقدم تنازلات لمصر.
لم يتم الالتفات للشائعات التى تأتى من هنا أو هناك، وتمضى التوجهات المصرية إلى سبيلها لسد الثغرات التى تمد الإرهابيين فى سيناء بأسلحة ومتطرفين من غزة، وجرى التفاهم على إجراءات متباينة لضبط الأمن من ناحية القطاع، وأعلنت حماس عن تصورات تساعد فى هذا الاتجاه، ظلت تناور فى قبولها فترة طويلة.
المشهد الإقليمى العام يسير فى طريق مضاد لرغبات حماس، لذلك قبلت على مضض بخطوات لم تكن تقبل بها فى أوقات سابقة، تتعلق بعدم التهاون فى غلق الأنفاق من جهة غزة وتسليم متشددين ومتورطين فى جرائم إرهاب، وحسب بعض المعلومات المتداولة القبول بوجود أمنى مصرى داخل القطاع لإثبات حسن نواياها، فضلا عن مشاركة دحلان والتيار الإصلاحى الذى يقوده فى إجراءات سياسية وأمنية يتم الترتيب لها فى غزة، الأمر الذى فهمه أبومازن على أنه ضربة موجهة لتقليص نفوذه لصالح غريمه محمد دحلان.
الظاهر أن حماس لن تتوقف عن التملص من بعض الالتزامات، وتراهن على الوقت وحدوث شروخ تمنحها فرصة لنقض غالبية القيود التى تكبلها، لأنها تخشى الدخول فى صدامات مع متطرفين إسلاميين يقيمون فى غزة، كما أن هناك مخاوف من اضطرارها، تحت وطأة الضغوط الواقعة عليها، تقديم المزيد من التنازلات بما يؤدى إلى صدام آخر مع عناصر محلية وقوى إقليمية تعترض على قيامها بالتطوير التكتيكى الحاصل فى العلاقات مع مصر.
الواضح أن التعامل مع حماس لم يغفل هذه النوعية من الحسابات المعقدة، وهو محكوم فى كل الأحوال بمحدد الحفاظ على الأمن القومي، وتحصين القضية الفلسطينية من المحاولات التى تريد لها عدم مبارحة مستنقع الخلافات والمناوشات والمكايدات الداخلية، وعندما يحين الوقت للحديث عن تسوية سياسية جادة تجد مصر قواعد ومحاور وثوابت يمكن الانطلاق منها.