أكتب هذا المقال بوحى من زيارتى المطولة للولايات المتحدة. لقد تفاجأت شعوب الشرق بتأخرها فى مقابل تقدم الغربيين. لم تحدث هذه المفاجأة بشكل متزامن بالنسبة لكل شعوب الشرق، وإنما استغرق الأمر ما يقرب من قرنين من الزمان، حتى عمت المفاجأة عموم شعوب الشرق من المسلمين. اكتشف الأتراك العثمانيون فجوة القوة التى باتت تفصلهم عن الغرب فى نهايات القرن السابع عشر، عندما أجبرتهم القوة المتزايدة لجيرانهم النمساويين على توقيع معاهدة كارلويتز، التى أقر فيها العثمانيون بتثبيت الحدود وانتهاء الفتوحات. انتهى عهد الفتوحات لكن الحدود لم يتم تثبيتها، فأخذت مساحة دولة بنى عثمان فى التقلص، وحدودها فى التراجع، حتى انهارت الدولة نهائيا فى الحرب العالمية الأولي.
أدرك المسلمون فجوة القوة التى باتت تفصلهم عن الغرب، فأصبح شغلهم الشاغل هو البحث عن سر تقدم الغربيين وما يقابله من تأخر المسلمين. لماذا تقدم الغرب؟ ولماذا تأخرنا؟ وكيف يمكننا اللحاق بهم؟ ثلاثة أسئلة متصلة ومترابطة شغلت العقل العربى والإسلامى لأكثر من قرنين من الزمان، وصنعت معا ما اصطلح المفكرون على تسميته «سؤال النهضة».
تناول المفكرون سؤال النهضة من زوايا مختلفة، فمنهم من ركز جهده على محاولة فهم الأسباب التى مكنت بلاد الغرب من التقدم، فتمت ترجمة «سر تقدم الأمم» لجوستاف لوبون، و«سر تقدم الإنجليز الأنجلوساكسون» لإدمون ديمولان. ومنهم من ركز على الاستبداد والطغيان كسبب لتأخر المسلمين، فنشر الكواكبى كتابه عن «طبائع الاستبداد». ومنهم من ركز على مظاهر تأخر الشرقيين، فنشر محمد عمر فى 1902 كتابه «حاضر المصريين، أو سر تأخرهم». الآلاف من الكتب، ومئات الآلاف من المقالات، كلها كتبت عبر مائتى عام من الزمان فى محاولة لتقديم إجابة ولو جزئية لسؤال النهضة.
فى كل مرة سافر فيها واحد من عموم المسلمين أو نبهائهم لبلاد الغرب لا نجده إلا وقد انشغل بالبحث عن إجابة لسؤال النهضة. يذهب عموم الناس للغرب فلا يكفوا عن مقارنة الأوضاع فى بلادهم بما يرونه فى بلاد الغرب، بدءا بنظافة الشوارع وانتظام المرور، وصولا إلى نظم السياسة والحكم. الكتاب المؤسس للفكر العربى الحديث هو نتاج لرحلة قام بها أحد نبهاء عصره لباريس، مركز الحرية والتقدم والحداثة فى القرن التاسع عشر. «تخليص الإبريز فى تلخيص باريزس» الكتاب المؤسس للفكر السياسى الحديث فى مصر والعالم العربي، كتبه رفاعة الطهطاوى أثناء وجوده فى باريس ضمن واحدة من البعثات التعليمية التى أرسلها محمد على إلى أوروبا. سافر رفاعة إماما ومرشدا دينيا لطلاب البعثة، وعاد من باريس وقد أصبح مؤسسا للفكر السياسى فى مصر وكل البلاد الناطقة بالعربية. التوفيق بين شريعة الإسلام وثقافة الغرب ونظمه السياسية هى الإجابة التى قدمها رفاعة لسؤال النهضة، ومازالت هذه الإجابة هى الأكثر قبولا فى بلاد العرب والمسلمين.
التوفيق بين شريعة الإسلام وثقافة الغرب ونظمه السياسية هو المبحث الأكبر فى الفكر السياسى العربى الإسلامى الحديث. الأصالة والمعاصرة، الموروث والوافد، القديم والجديد، المقدس والدنيوي، الله والإنسان، التراث والعصر، الشرق والغرب، والثابت والمتحول؛ كلها أسماء وعناوين تم إطلاقها على هذا المبحث، وفى هذا المجال سال كثير من الحبر. المظلة الواسعة التى يقترحها التوفيقيون تتسع لكثير من التيارات والاختلافات، وهذا سر قوة المنهج التوفيقي. غير أن المنهج التوفيقى لا يقدم معيارا محددا للمزج بين القديم والجديد، والموروث والوافد، فأصبحت كل قضية -مهما قل شأنها- موضوعا للجدل والصراع، فكان هذا هو سر ضعف المنهج التوفيقى نفسه.
بكل ما فيه من عناصر الفوة وعناصر الضعف، أتاح المنهج التوفيقى لبلادنا أطول فترة ممتدة من الإصلاح السياسى والاجتماعي. الفترة المعروفة بعصر النهضة الحديثة فى مصر والعالم العربى هى فترة سيادة منهج التوفيق الإصلاحى بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وهى الفترة التى ازدهرت فيها تيارات الحركة الوطنية ذات التوجه الإصلاحى الليبرالي، وتم خلالها إرساء قواعد المؤسسات الحديثة فى الدولة والمجتمع، فجرى تحديث القانون، ووضع الدستور، وإنشاء البرلمان، وتحديث القضاء، وتأسيس المدارس والجامعات الحديثة، وبناء الأحزاب والنقابات والجمعيات، فازدهرت الفنون والآداب، وتعززت حرية التعبير، وعرفت المرأة طريق الحقوق الشخصية والحريات العامة. لقد كان وبحق عصرا للنهضة الوطنية، فالتوفيق الإصلاحى هو المحتوى الفلسفى والنظرى للوطنية، وفى إضعافه إضعافا للوطنية لصالح تيارات أممية يمنية ويسارية.
غير أن اللايقين ونقص التحديد المميز للمنهج التوفيقى جعل لهذا المنهج نقاط ضعف استفاد منها خصومه. الحركات الإسلامية تتمسك بحرفية النص الديني، وترفض ما تعتبره تفريطا من جانب التوفيقيين فى أصول الإسلام ومبادئه. التيارات السائدة فى أوساط الشبان الثوريين، ليبراليين ويساريين، تقتبس الثقافة الغربية، وترفض ما تعتبره مساومة من جانب التوفيقيين مع القيم التقليدية. يرفع الإسلاميون راية الدفاع عن الدينى المقدس، فيما يرفع الليبراليون واليساريون راية الحرية والعقل، ويبقى التيار التوفيقى إصلاحيا وبراجماتيا ووسطيا، ملائما للمزاج الشعبى الغالب، وإن كان يفتقد لأساس نظرى ومبدئي، يتيح له مقارعة خصومه من اليمين واليسار.
قوة المنهج التوفيقى الإصلاحى تكمن فى روحه العملية، وفى وسطيته التى تجعله مقبولا من عموم الناس، بينما يكمن ضعفه فى جاذبيته المحدودة لعناصر النخب المثقفة، التى تبحث عن استقامة فكرية - ولو شكلية - تجدها فى عقائد اليمين واليسار. الملاءمة والواقعية هى أقوى حجج التوفيقية الإصلاحية، وهى أمور يصعب البرهنة عليها نظريا، لكن يمكن إظهارها فقط من خلال الممارسة.
الضعف الذى اعترى التيار التوفيقى الإصلاحى هو سر تأخر المصريين المعاصرين، بعد النهضة الرائعة التى حققوها عندما استلهموا قيم التوفيق الإصلاحي. تراجعت جاذبية تيار التوفيق الإصلاحى عندما أخفقت الحكومات فى صيانة الاستقلال وتحقيق التنمية وتوفير الحرية. ازدهار تيار التوفيق الإصلاحى من جديد مرهون بالنجاح فى تقوية الوطن وصيانة كرامة المواطن وحريته ورفاهته، وبقدر ما يتحقق من نجاحات عملية، بقدر ما يتعزز الأساس الأخلاقى والنظرى لتيار الإصلاح التوفيقى.