التحرير
علاء خالد
ما زلتُ أحتفظُ بالأعمال الشعرية لـ«إيف بونفوا» يا إبراهيم
تعرفت على الصديق إبراهيم المصرى فى النصف الثانى من الثمانينيات عن طريق الصديق أسامة الدناصوري. كان يعمل وقتها فى الإمارات، ولا يزال. ومن خلاله تعرفت على ثقافة جديدة لم تكن تصل إلى مصر فى ذلك الوقت، وأيضا لم يكن مركزها مصر. من المغرب ولبنان وسوريا وقبرص وباريس، دور نشر ومراكز أبحاث وترجمات وروايات ومجموعات شعرية. تعرفت على الفيلسوف الفرنسى ميشال فوكو وكتابه الأشهر "حفريات المعرفة"، وجملته الشهيرة التى ينهى بها كتابه التى يحاكم بها الحضارة الأوروبية، والتى كنا فى شوق لمن يحاكيها بعد أن فقدنا الأمل فى اللحاق بها، وفى شوق أيضا لخطاب جديد غير ماركسي. كان إبراهيم يحفظ هذا المقطع الأخير النبوئى عن ظهر قلب ويتخذه شاهدا فى جلساتنا: "الخطاب ليس هو الحياة، وإن زمنه ليس زمانكم، فيه لا تتصالحون مع الموت، ومن الممكن أن تكونوا قتلتم الله تحت ثقل كل ما قلتموه، ولكن عليكم أن لا تعتقدوا أنكم سوف تصنعون، بكل ما تقولونه، إنسانا سيعمر أطول منه". ربما ما جذبنى ويجذبنى حتى الآن فى هذه الجملة شديدة الكثافة هو فكرة "التصالح مع الموت"، التى سيكون لها علامة أخرى ضمن هذه الثقافة الجديدة فى تلك الفترة. تعرفت أيضا على عالم الأنثروبولوجيا الأثير كلود ليفى شتراوس وكتابه "الفكر البرى" وسيرته الذاتية الفذة والشجية "مداريات حزينة". تعرفت أيضا على الفيلسوف الفرنسى ريجيس دوبريه وكتابه "نقد العقل السياسي". بجانب كل المشروعات الفكرية التنويرية لنقد العقل العربى بداية من محمد عابد الجابرى والطيب تيزينى وعبد الله العروى وغيرهم. أيضا تعرفت من خلال إبراهيم على "جابريلا قرنفل وقرفة" رواية الكاتب البرازيلى الشهيرة جورجى أمادو، وعلى "مجنون إلزا- أراجون"، وعلى الأعمال الكاملة لديستوفسكى فى طبعة كاملة مغلفة داخل كرتونة أنيقة غير طبعة دار التقدم الروسية. وتعرفت أيضا على الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسى "إيف بونفوا" بمقدمة شديدة التركيب والحفر فى طبقات العمل الشعرى للناقد السويسرى المهم "جان ستاروبنسكي" ومن ترجمة أدونيس. داخل هذه الأعمال قرأت تلك الجملة الخلاقة لهيجل التى استعان بها "إيف بونفوا" فى تصدير أحد دواوينه "ولكن حياة الفكر لا ترتعب أبدا أمام الموت، وليست تلك التى تعْرى منه. إنها الحياة التى تتحمله، وتستمر فيه". كل العبارات التى كنا نتوقف أمامها ونقتبسها فى أحاديثنا وعلى ظهر قلوبنا كانت تعنى بالموت، سواء من ميشال فوكو أو هيجل أو إيف بونفوا الذى فقد حبيبته "دوف" وكتب عنها ديوانا استثنائيا سماه "دوف حركة وثباتا". كانت "دوف" إحدى مفقوداتنا، وكان الديوان أحد أناجيلنا فى تلك الأمسيات الطويلة والحارة من شهرى يوليو وأغسطس. يبدو أننا كنا نخاف من الموت، أو كنا نعيشه بالفعل، ونحتاج لمن يعيننا على تحمله داخل حياتنا. تعرفت أيضا على حساسية جديدة فى النقد الفنى والأدبى والاجتماعى واللغوى والتاريخى بداية من لوسيان جولدمان للشكلانيين الروس، لرولان بارت، لبيير بورديو، وغيرهم. كان فكر البنيوية وما بعدها، وما بعد الحداثة يشق طريقه فى كل مطابع ودور النشر العربية ومعارض الكتاب، خاصة فى دول الخليج، وخاصة فى الإمارات، تبعا لمساحة حرية محسوبة لتداول الأفكار والكتب، والتى أصبحت منذ التسعينيات موئلا لكثير من المواهب والثقافات والمثقفين العرب، من داخل الوطن، أو من خارجه هؤلاء الذين تركوا بلدان المهجر بعد أن تقلصت فرص الحياة هناك بعد حرب الخليج وتغيير خريطة الانحيازات العربية. دول الخليج، ربما باستثناء الكويت التى لها سابق نشاط ثقافى منذ الستينيات، كانت فى السبعينيات والثمانينيات وبدايات التسعينيات؛ تعتبر دولا بترولية يخشى المثقف المصرى من أن يقترب منها حتى لا تصيبه هذه التخمة النفسية والروحية التى تعانيها بسبب الرفاهية الزائدة، ولغياب المجتمع المتجانس بداخلها، وبقاء هذه المجتمعات خارج "التاريخ". ولكن مع غياب هذا المعيار تماما وغياب هذا المثقف الأيديولوجي، أصبحت دول الخليج موئلا وملاذا للكثيرين، وبدأت تظهر بداخلها تحولات ومراكز لتجمعات فكرية وثقافية غير منظمة، وتعقد بها ندوات مهمة، ومعارض كتاب ضخمة، ومهرجانات يدعى لها أكبر كتاب وروائيي، ومخرجي، وممثلي؛ العالم. كانت هذه الكتابات والترجمات التى أتى بها إبراهيم، جديدة على قراءاتي، ولم يكن هناك مثيل لها فى الواقع الثقافى المصرى المسيس ماركسيا، أو لنقل يساريا. بالنسبة لى سمحت هذه الكتابات بفتح ثغرة فى الجدار اليسارى الجمعي، بكل أطيافه، كونها غيرت من صورة المثقف ودوره فى الحياة، وأكدت على الإنسان الفرد. أغلب مجموعات القاهرة المثقفة فى نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت تسيطر عليها الكتابات التاريخية ونظريات سمير أمين، ومذكرات أحمد عرابى والرافعى وكتابات صلاح عيسى فى "دفتر الوطن". جماعات شعرية وسياسية تقرأ ماركس وتروتسكى وأنجلز والحلاج والنفرى وتزاوج بين الجميع، وتنظم ندوات جدية وممنهجة لبناء فكر نظرى حول الواقع والتاريخ والشعر. أما فى الإسكندرية فقد اختفت تلك الجماعات ودخل شعراء قصور الثقافة وكاتبيها فى موجات تدين حزينة وجماعية واكتئابية. فكان صالون إبراهيم المصرى الصيفى الارتجالى الذى نعقده على موكيت شقته؛ متنفسا ونواة لمرحلة جديدة لم تكن بوادرها قد ظهرت فى الإسكندرية بعد. كل سنة يعود إبراهيم المصرى فى إجازته الصيفية للإسكندرية محملا بالكثير من الكتب والطبعات الأنيقة والشرائط والأسماء الشعرية الجديدة والأفكار والحماس. ويخلق حوله دوامات من الأصدقاء والحوارات والأفكار والصراعات الحادة. كان سريع الغضب وسريع الهدوء أيضا. كانت تلك السهرات الفكرية تمتد فى شقته القديمة بالعصافرة عند المعهد الدينى حتى الصباح، وسط مساكن وحياة جيران لا يعرفون الثقافة، ولا خطورة الأفكار التى تجرى بجوارهم فى هذه الشقة الصغيرة. كأنها شقة سرية لتحضير الألغام التى ستنفجر فى المجتمع الذى يعيشون فيه أو فى أنفسهم. وحدث الاثنان معًا بعدها بسنوات!

أحيا إبراهيم نوعا من التبادل، الموجود بالتأكيد فى تاريخ الأدب والأدباء، الذى لا يعترف بالحدود الشخصية، المادية أو النفسية. كأن الأدب ديانة لها شروط للانتماء لها، ضد عالم خارجى شديد التقليدية وحدودى بامتياز وغارق فى ذاتيته. فتح إبراهيم مكتبته "الثمينة" بأريحية شديدة للجميع للاستعارة منها، أصدقاء وغير أصدقاء. وغالبا لا تعود الكتب ولا يحرص على اقتفاء مسارها وآثارها عند الأصدقاء، وربما ينسى كل مرة الدفتر الكبير الذى يسجل فيه أسماء الكتب المستعارة وأسماء من قاموا باستعارتها. كأنه بهذه الأريحية يسدد "دينا" لشيء مطلق، يؤمن به، ويرد على واقع سابق كان شحيحا فى العطاء، أو كان يقتدى بروح الكتاب الكبار. هذا "الدين" الذى نحمله جميعا بداخلنا، وله أشكال عدة ليظهر التزامنا الإنسانى به. كان إبراهيم، وآخرون، يحلم بنموذج إنسانى وأدبى جديدين، فى الوقت الذى افتقر فيه الواقع الثقافى والإنسانى إلى أن يطرح مثل هذه النماذج. يمكن أن نتكلم فى مصير هذه النماذج الإنسانية الآن، وربما بعدت عن حلمها، أو تباعد الواقع عن إمكانية الحلم به، ولكن لحظة البداية كانت مدفوعة الثمن تماما. كانت تلك الفترة، فى النصف الثانى من الثمانينيات، بدايات فترة تحول أعيشها فى علاقتى بنفسى والثقافة، وجاءت الكتب التى كان يحملها إبراهيم فى إجازته، كوزن زائد، لتضيف لوعيى الكثير من الأوزان والأفكار والرؤى والنقاشات. حتى الآن تعتبر هذه الفترة لامعة فى حياتى ولها مذاقها فى التعثر والصمت والصراع مع النفس، ولها أصداء داخل إيقاع حياتى كارتطام متواتر لموج بجدار صخرة. فى كل الكتب التى يعيرها إبراهيم كان يضع توقيعه كاللوجو أعلاها، وربما يعرف تماما أنها لن تعود مرة أخرى إلى رفوف مكتبته، فقط يرسل هذا التوقيع وسنة شراء الكتاب، كأثر منه وذكرى ليحتفظ بها أصدقاؤه فى مكتباتهم. بعض هذه الكتب اختلطت بمكتبتى ودخلت فى نسيجها، أراها تطفو على سطح مكتبتى كلما راجعت ترتيبها بحثا عن كتاب ما. ولكنْ هناك كتاب وجدته مستيقظا وطافيا باستمرار ليعرض نفسه أمامي، هى الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسى "إيف بونفوا". اختلاط كتب أحد أصدقائك بمكتبتك شيء أشبه بعملية نقل الدم، علاقة داخلية من الأفكار المتبادلة والمبذولة، وتظل آثاره زمنا طويلا. كنت أفرح بخطاباته التى يرسلها إليّ من الإمارات، والتى غالبا ما كانت تطفح بعبارات مشجعة وملهمة تمنح الذات المجدبة بعض العزاء على الحياة. كانت هذه الخطابات، مع غيرها، هى نقاط ضوء صغيرة وسط واقع لا يمنح أى شيء ولم يكن فيه أى شيء أو دور شخصى أو حتى موهبة واضحة يمكن أن تمنحنى الثقة. كنت فى وضع يسمح بأى شيء وأى اختيار، وربما كانت هذه الخطابات المشجعة، مع غيرها من الأشياء القليلة الأخرى، هى التى أثقلت كفة الموهبة، وجعلتنى أختار هذا الطريق "الآخر".

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف