بلا مقابل.. تراق دماء غزيرة على الأسفلت، كل يوم يصدمنا خبر اغتيال بعض من رجال الشرطة، معظمهم مجندون صغار السن، يقضون شهور خدمتهم، ويغادرون إذا كتبت لهم النجاة وهم لا يدرون بالضبط من الذي يوجه الرصاص إلى صدورهم، ولا لماذا يترصدهم بالذات، أسوأ الكوابيس التي يواجهها الإنسان هو عندما لا يعرف عدوه، ولا يتوقع موعد أو مكان الضربة التي يوجهها إليه. لقد أصبح التنمر ضد رجال الشرطة ظاهرة جديدة في المجتمع المصري، خاصة ضد الحلقة الأضعف منهم، جنود الدورية، ولم تعد العملية ضدهم تتم في الخفاء، ففي واقعة "البدرشين" الأخيرة حدثت واقعة القتل في وضح النهار، تحت أعين المارة الذين وقفوا يتفرجون، ووسط السيارات التي تعبر الطريق دون أن تتوقف واحدة منها للتحقق مما يحدث أو تقديم يد المساعدة. أفراد الشرطة في معظمهم غير مجهزين للرد على هذه الهجمات، ولو تأملنا المعدات التي يحملها أي شرطي في كل مكان في العالم لاكتشفنا أن رجل الشرطة في مصر يسير عاريا تقريبا، أغلبهم يحملون بنادق فارغة من الطلقات، فالطلقة عهدة يتم محاسبته عليها، والكثيرون منهم لا يعرفون كيفية إطلاق النار، قوتهم المؤثرة تكمن في "هيبة الشرطة"، على الخوف الموروث في نفس المواطن المصري إزاء سطوة السلطة، مجرد وجود الشرطة فقط كاف لتعويض أي نقص في قوة النيران، ولكن الأمر قد تغير، ظهر ضعف الشرطة جليا، وعدم قدرتها على الرد الفوري، كما أن انتشار الصور والفيديوهات كشف عن العديد من الأخطاء والتجاوزات التي يقوم بها بعض أفرادها، إضافة إلى الأخبار التي تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي عندما تتم تصفية عناصر إجرامية ثم يتبين أنه ليست لها صلة بالحادث، وقد تراكمت هذه الأمور لتكون قناعة خاصة لدى بعض المواطنين أن الشرطة لا تقوم بالعمل بالطريقة الصحيحة ولا تصيب الهدف الصحيح، لقد ضعفت القوة المعنوية التي كانت تمثلها الشرطة رغم سقوط عدد كبير من ضحاياه، وضاع أيضا القانون الذي لم يلتزم به الخارجون عليه ولا الذين يمثلونه. ولكن ما يثير الرعب فعلا هو وجود كل هذا العدد من القتلة الذين يسيرون بيننا، هؤلاء الذين يشبهوننا في الملامح ويدركون مدى قسوة الظروف التي نعيش فيها ومع ذلك لا يتوقفون عن الكيد لنا والانتقام منا ومحاولة إثارة الرعب والفزع في نفوسنا، فالمعركة التي يثيرونها ليست موجهة فقط ضد جهاز الشرطة أو أفراد الجيش، ولكنها ضد كل فرد وكل أسرة، إنها ليست ضد الأكمنة الخارجية على الطريق، ولكنها في داخل كل بيت مصري، ضد كل أمهات وآباء الشهداء، هؤلاء القتلة يدركون أنهم يضربون في لحمنا الحي، يحاولون إثارة رعبنا بكل وسيلة، إنهم قتلة متسلسلون كما يطلق عليهم في التوصيف الجنائي، فالقاتل من هذا النوع هو الذي يقتل ثلاث ضحايا في ظرف شهر واحد، وهذا ما نواجهه، اغتيال يومي، في حالة القتل المتسلسل يقتل النساء من أجل المال، ويقتل الرجال من أجل الجنس، وفي حالتنا يقتلون من أجل الانتقام، لا يهمهم الحفاظ على أرواح الآخرين ولا حتى أرواحهم، جيل من أبناء الموت ممتلئين بالحنق والغضب، ويحسون بالظلم من كل الأنظمة ويبلورون كل مشاعر الإحباط في داخلهن في رغبة الانتقام، لذا من السهل اصطيادهم وغسل أدمغتهم من شيوخ الانتحار والجماعات السرية، إنهم يهيئونهم للموت باعتباره طريق الشهادة والوصول إلى الجنة، حيث يتخلصون من إحساس الظلم والمهانة الواقعة عليهم، يؤكدون لهم أن الموت في الدنيا ليس فناء فعليا ولكنه مجرد بوابة يعبرون منها إلى عالم آخر، أكثر مثالية وأكثر عدلا، وحتى يكون ذلك مستحقا عليهم أن يحدثوا أكبر قدر من الخراب، وأن يسقطوا أكثر عدد من الضحايا قبل أن يرحلوا، أي جنة يمكن أن تنتظر هؤلاء القتلة وهم يدخلون إليها ملوثين بالبارود ومخضبين بالدم؟ من أين جاءت هذه الرغبة في الانتقام وما يتبعها من حقد لا يهدأ؟ وكيف تم زرع هذا القدر من التدمير في نفس الإنسان المصري الذي عرف دوما بوداعته؟ هناك العديد من الأسباب التي علينا أن نواجهها بصراحة، يمكن اختصارها في ثلاثة: أولها: صدمة ميدان رابعة العدوية: رغم مرور ثلاثة أعوام على هذه الواقعة الدامية فلا تزال آثارها مستمرة، بوصلة المشاعر لهذه اللحظة من تاريخنا، تحولا جارفا انتقل من أرض الواقع إلى داخل النفس، أحس معظم الناس بالراحة، رغم مشهد الجثث، زالت فجأة صيحات التهديد والوعيد التي كانت تملأ الميدان على مدى أكثر من أربعين يوما، وظلت أدخنة الحرائق تتصاعد منه لعدة أيام، لم بعد هناك فرصة للتصالح أو الحوار ولم يكن أحد من الطرفين يريد ذلك، ولكن كان هناك آخرون خرجوا من بقايا الميدان وهم يحملون نفوسا تتحين الفرصة للانتقام، نفوس أحست بالظلم والإهانة ولم تستطع أن تنسى أو تتجاوز الصدمة، لقد أيقظت داخلهم روح المظلومية التي عاشوا في ظلها طويلا، من بين هؤلاء جاء القتلة المتسلسلون، يزرعون العبوات الناسفة في أماكن متفرقة، يحاولون اغتيال بعض الشخصيات، يفجرون مديريات الأمن، ثم تركزت عملياتهم ضد رجال الشرطة، وكلما نجحوا في هجمة غاضبة، تاقت نفوسهم لواحدة أخرى، لقد أعيد ترميم الميدان وتنظيفه ولكن النفوس التي شاركت في هذه الواقعة لم ترمم ولم يتم تنظيف ما فيها من أحقاد. ثانيها: صدمة السجون المزدحمة: هناك أعداد كبيرة من الذين تم القبض عليهم بتهم متفاوتة، ولا يوجد سجن يمكن أن يتسع للجميع، وتنظيم الإخوان كان كبيرا والمتعاطفون معهم كانوا أكبر، ويمكن أن نقدرها بالأعداد التي انتخبت الرئيس مرسي في المرة الأولى، خمسة ملايين شخص، انتخبوه بمحض إرادتهم، أي أننا نواجه عددا كبيرا من أفراد هذا التنظيم، المستترون منهم أكثر من الظاهرين، جيش ضخم يسكن بيننا، ليسوا كلهم ميالون للعنف، وليسوا جميعهم قتلة متسللين، والله أعلم بأسرار القلوب، ولكن السجون تختنق بأعداد كبيرة منهم، ويوجد خارجها أعداد أكبر، كل مسجون سياسي له عائلة في الخارج، قنبلة موقوتة على الاستعداد للانفجار، ومن أبناء هؤلاء السجناء يمكن أن يأتي قتلة مشبعون بروح الانتقام، ظروف السجون سيئة، وانتقادات منظمات حقوق الإنسان لا تتوقف، وشهادات المسجونين لم يعد من الممكن كتمها، وصفحات التواصل مليئة بالشكاوى والقصص المرعبة، يجب التفكير جيدا في تفريغ السجون، كشوف الإفراج عن مئة أو مئتين ليست كافية، هي أشبه بأقراص المسكنات لن تفيد في مواجهة حالة الحمى التي تعصف بجسد الوطن، لا بد من مبادرة جريئة لتفريغ السجون وجعلها أكثر إنسانية. ثالثها: صدمة الحالة الاقتصادية الصعبة: إنها تزداد صعوبة، وتزداد أعداد الشباب العاطلين عن العمل، العاجزين عن أي أمل في المستقبل، ليسوا آلافا ولكن ملايين، فقدوا الأمل في أي مستقبل، وعلى استعداد لفعل أي شيء للخروج من حالة العجز، هؤلاء من السهل شراؤهم وتطويعهم وتحويلهم إلى قتلة، فالمجتمع لم يمنحهم الفرصة للحياة، لذا فالانتقام منه فرض عين، كما قال أحدهم. إننا نعيش أياما صعبة، لأن العدو يسكن بيننا وربما في داخلنا!