جلال حمام
الوراق.. جزيرة حجبت عقل الحكومة عن وعى المواطن
سياسة «رد الفعل»، ثقافة مازالت تعتنقها الحكومة وتعمل بمقتضاها، دون أن يكون لها فضل «العمل الاستباقى»، الذى يشرح ويفسر، قبل أن يواجه وينفذ، درءًا للمفاهيم المغلوطة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، وهو الأهم، قطع الطريق على مروجى الشائعات والمتربصين بالدولة، حتى لا يكونوا نارًا تشعل الفُرقة بين المواطن وحكومته، ودفع الجميع إلى حالة من المواجهة، تتخذ فى بعض الأحيان، شكل العنف المفرط، الذى يمارسه المواطن «الجاهل» بحقيقة الأمر، حيال حكومة، جاءت لتعمل من أجل هذا المواطن، فإذا بها تجد نفسها مضطرة إلى التحلى برباطة الجأش وضبط النفس، والتخلى، ولو مؤقتًا، عن تنفيذ القرار الذى اتخذته، لأن سلبياته الآنية، أفدح من أى نتيجة إيجابية قد تحصدها، من وراء التعبير عن وجود الدولة، فى مواجهة الخارجين على القانون، وأولئك الذين استولوا على مكتسبات الشعب وحقوقه.. تمامًا، كما حدث مؤخرًا فى جزيرة الوراق.
هذه الجزيرة التى يقطنها حاليًا، نحو ٩٠ ألف نسمة، هى من أكبر الجزر النيلية فى محافظة الجيزة، كانت واحدة من ١٤٤ جزيرة، أعلنها الدكتور كمال الجنزورى، رئيس الوزراء الأسبق، محميات طبيعية عام ١٩٩٨، إلا أنه سرعان ما خرجت ١٧ جزيرة، من هذه الجزر، من تصنيف المحميات، من بينها الوراق، بعدما تبين أن الإهمال والتسيب، وعدم الرقابة، كانت وراء وجود البشر وقيام الزراعات والبناء بالخرسانة، فوق أراضى هذه الجزر، مما يتعارض ومواصفات المحميات.. وبالتالى، آلت إدارتها إلى وزارة البيئة وأجهزتها، التى أصبحت مسئولة عن وضع الضوابط الكفيلة بحماية نهر النيل من التلوث.. وخلص الأمر إلى أن أراضى طرح النهر أو الجزر النيلية، أراضٍ زراعية، لا يمكن تحويلها إلى نشاط آخر، وأن التصرف فيها يخضع لنظام التأجير وليس لغرض التملك، لكن فوضى الإدارات المعنية، وإهمالها، كانا البطل الحقيقى وراء مشكلة الوراق، التى تحولت قبل أيام، إلى فتنة. يقول علماء الاجتماع والعلاقات العامة، إنه ليس من المهم أن تكون على صواب، الأهم أن يعلم الآخرون أنك على هذا الصواب.. بمعنى آخر، لا بد أن يكون هناك جهد توعوى، يتوجه بالأساس إلى البسطاء من الناس، يضع أمامهم الحقائق، ويبين لهم الأهداف الإيجابية لإجراءات الحكومة، التى قد يبدو فى ظاهرها العذاب، إلا أنها تحمل فى باطنها الرحمة بهذا المواطن.. فالمنطلق الأساسى للحملة التى توجهت إلى الوراق قبل أيام، كانت تستهدف استعادة أراضى الدولة، ممن استولوا عليها فى غفلة من الجهات المسئولة، وفى ذلك عودة لقوة القانون، الحامية لحقوق المواطن، قبل الدولة، وإرجاع الحق لأصحابه، وهم المواطنون.. وثانيًا، أن الدولة تتوخى صالح الشعب، بوضعها مخططًا لتطوير الجزيرة، يصب فى صالح أهاليها، وأنها تستغل أراضى الدولة التى يتم استردادها فى تطوير الخدمات المقدمة لهم، وإقامة عدد من المشروعات التى تعود بالنفع عليهم.
لكن.. هل يقرأ الناس الغيب؟.. وقد درجت العادة، وتجذرت ثقافتنا على سوء العلاقة بين الحكومة والشعب، الذى يرى أنها لا تعمل ما فى صالحه، وأنها تتربص به، وأنها تأخذ منه ولا تعطيه.. وهى ثقافة تحتاج إلى تغيير فهم الناس لها بالخطاب المباشر والتوعية، ومناقشة أصحاب الشأن، فيما يعود عليهم بالنفع، وإن بدا ظاهريًا أنه يحمل القسوة، وأنه يمنع ولا يمنح.. وهذا من شـأنه قطع الطريق على المتربصين بالدولة المصرية، الذين يتحينون الفرص لتأليب الشعب على دولته، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، وهو خطأ ينصب وزره على رأس الحكومة، التى تعتمد الصمت منهجًا لتنفيذ مشروعاتها ومخططات تطويرها للبلاد والارتقاء بالعباد، والنار محفوفة دائمًا بحسن النوايا.. وقد رأينا بأم أعيننا، كيف ركب أصحاب اللحى فى الجزيرة، موجة استعادة الدولة لأراضيها المنهوبة، فى تحريض الأهالى على قوات الأمن والأجهزة التنفيذية، وإحداث مواجهة ومقاومة من الأهالى، لما يعتبر إرساءً لمبدأ سيادة القانون، ومحافظة الدولة على حقوق مواطنيها.. ورأينا كيف جاءت أحداث الوراق مباشرة، بالصوت والصورة، على قناة الخنزيرة القطرية، وشواهد كثيرة، تصب كلها فى أن هناك من يستغل بعض إجراءاتنا القانونية، فى إحداث مواجهات بين الشعب وحكومته، سعيًا لهدم الدولة المصرية من الداخل، بعد عجزهم الدائم عن النيل من ثوابتها، أو اجتزاء جزء من أراضيها، حتى لو كلفنا المزيد من دماء شهدائنا الأبرار.
وإذا كان رئيس الوزراء، قد صب الماء على النار، فأطفأ فتنة الوراق، إلا أن ذلك لا يعنى تهاون الدولة فى التعامل بحسم وقوة مع ملف التعدى على أراضى الدولة، خاصة فى هذه الجزيرة، التى صدر بشأنها سبعمائة قرار إزالة قانونى، لكن هذا الحسم وتلك القوة، لا بد أن يكونا مصحوبين بخطة حقيقية لإقناع الأهالى بضرورة إخلاء الأراضى دون اللجوء إلى اشتباكات، لأن ذلك ليس معناه ما أُشيع حول تهجير الناس من جزيرتهم، ولا إخراج مقيم فى منزله أو اقتلاع زروع مثمرة.. الأمر يتعلق بمخالفات يجب تصحيحها، ويجب إفهام الناس ذلك، قبل البدء فى أى خطوة أخرى.. وليتنا نتعلم من رئيس لا يراهن على كرسى الحكم، بل رهانه الأول هو مصر ومستقبل أبنائها، كل شىء عنده يأتى على وعى، وله تخطيطه، الذى يقوم على دراسات، محسوبة بالورقة والقلم.. بدأ رئاسته للبلاد بمشروعات، وضعها موضع التنفيذ، فحول مصر إلى أكبر ورشة عمل، لم يشهد تاريخها مثيلًا لها، جاء إلى سدة الحكم، فى أرض بوار، واقتصاد قد تعرى من أى سقف يحمى مستقبل الدولة.. جاء إلى حيث فقر بلغ مداه، فى بلاد يسكن عدد غير يسير من مواطنيها العشوائيات، يسبحون فى مياه المجارى، ويقيمون داخل عشش من صفيح، ما بين فقرائها وأغنيائها، ما بين الأرض والسماء.. جاء إلى بلاد، لم يصنع هو مقدراتها، فإذا به يجد أن تعليمها قد خرج من ترتيبه العالمى، وتخرج فيها بعض الأميين بشهادات عليا، ولم يجد نابهوها من يأخذ بأيديهم ليشقوا طريقهم فى مدارج العلم، بعد أن سيطر الأبناء على ما وفره لهم الآباء، أساتذة الجامعة، من فرص للعلم، لم يستغلوها، ولم يتركوا غيرهم ينتفعون بها، من أجل مصر، ومستقبل العلم فيها.. بلاد أغلقت فيها الكثير من المصانع أبوابها، وأفلست شركات، وتشرد عمال، ودُمرت صناعات كانت رائدة فيها، على رأسها الغزل والنسيج.
ويبقى أن السيسى يخوض معركته، وقد تخاذل البعض من الإعلاميين عن نصرة بلده، والوقوف إلى جانب الحق، والانتصار لمصلحة الوطن، خاصة أولئك الذين انقطعوا عن خدمة بلدهم، وتفرغوا لمصالحهم، ومصالح من يعملون عندهم، فاتخذ هو سبيله مع الشعب بالمصارحة والمكاشفة، حتى ولو كانت الحقائق قاسية.. لكنه الدواء المر، الذى يعقبه الشفاء بإذن الله.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.