خالد عكاشة
الملف الأمنى.. أوان التطوير المراوغ «1»
ونحن نتناول هذا العنوان، فى نهاية أسبوع لم يمر بسلام، على الرأى العام المصرى الوطنى بأى حال من الأحوال؛ فقد شهد بداية من صباح الجمعة الماضية عملية إرهابية استهدفت «مجموعة أمنية» بجنوب الجيزة. وأعقبت هذا الحادث، حادثتا طعن، الأولى لسائحات بالغردقة والأخرى لحارس كنيسة القديسين بالإسكندرية، مما أصاب مشاعر المواطنين بحالة ألم وغضب مفهوم ومتوقع، جاء هذه المرة ممزوجًا بقدر كبير من الدهشة والتحفظ على أداء القوة الشرطية، وهم يجابهون «٣ عناصر مسلحة» نفذت العملية الأولى بالقرب من مدينة البدرشين.
ربما كتبنا الكثير عن الإرهاب وتنظيماته المسلحة، تكتيكاتها وعناصرها وخطط عملها الآنية والمستقبلية وأيضًا تناولت مع كثيرين غيرى أهدافهم ومرجعياتهم، لذلك رأيت اليوم أن يكون الحديث عن «الجهاز الأمنى»، فقد التقطت نبرة الغضب والضيق الذى يتحدث به المصريون الوطنيون اليوم عن الأداء الشرطى، ومرجعيتهم فى ذلك إيمانهم بجهازهم الوطنى الذى يريدونه دومًا فى مشهد المنتصر، ولا يؤلمهم أكثر من متابعة أخبار الشهداء والمصابين الذين يسقطون فى تلك الحرب الشرسة. وأظن هذا أمرًا هامًا لأن أول ما يمكن قوله للجهاز الأمنى؛ أن عدم التقاطه مثل تلك الإشارة مما يدور فى نفوس وأقوال الرأى العام الوطنى هو خسارة إضافية للجهاز، وفى حال الاكتفاء بسياق التبرير أو التشويش على ما يتردد سيظل من يحمل الوزر حينئذ الجهاز الأمنى نفسه.
لأن المشهد بتعقيداته، وأخطاره المركبة، ليست بخافية على أحد. ومواجهته تحتاج إلى درجة عالية من الصدق مع النفس، بقدر الثبات على عقيدة المجابهة. وهذا ما يدفع إلى تلمس مواطن القصور لتسديدها وعلاج مسبباتها، وفى هذا وفيما سيذكر لاحقًا لا عيب أو ضير إطلاقًا أن تكون لنا نظرات ناقدة وراصدة لأماكن الخلل، لأنها تستلزم جهدًا يجب بذله لكى نتقدم على طريق التصحيح والدعم الذى يحقق لنا نتائج حقيقية. وبمناسبة ذلك أى جهاز أمنى على مستوى العالم لا يخصم من مصداقيته أو جهده فضلًا عن انحيازه الوطنى، أن يفسح المجال لهذا القدر وغيره من التقييم والتصحيح واستنباط مسارات التطوير الواجب. وفى المقابل يظل الخصم حاضرًا ويتشوش تقييم الجهد المبذول، فى حال تمترس الجهاز الأمنى خلف سواتر من الاستعلاء وضيق الصدر وتصدير الذرائع سابقة التجهيز، وفى تلك الأخيرة لا يعدم أى جهاز أمن تفاصيل عديدة لما يتوقع أن يلاقيه فيما يخوضه من مهام، وفى حالة الجهاز الأمنى المصرى ونظرائه فيمن يحاربون نشاطًا إرهابيًا مسلحًا، تظل دماء شهدائه كما هى شهادة فخار مستحقة للجهاز وأعضائه من مختلف الرتب، قادرة على تغطية أوجه عديدة وجاهزة للرد الفورى على أحاديث من هذا النوع الذى نتناوله.
سيؤرخ قريبًا لتلك الفترة من دون شك، أن مصر كدولة كانت تخوض فيها حربًا شرسة ضد الإرهاب، والطبعة الجديدة للإرهاب بتكوينه المعقد فى الأصل زادته ما استجد عليه تعقيدًا وخطرًا، فقد دخل عليه الطابع المعلوم بصورة جعلت ما ينتج اليوم فى الرقة السورية لا يحتاج سوى ساعات، حتى يصل إلى جنوب العريش أو سواحل بنغازى أو أسوار مجلس العموم بالعاصمة لندن. والذى سيحاول اليوم الإمساك بأطراف امتداد الظاهرة؛ ربما ترهقه مراوغة الخرائط أو نقاطها المتفجرة أسفل يديه قبل أقدامه. فقد دخل على نسق الإرهاب المسلح ما يُعرف اليوم صراحة بـ«حروب الوكالة»، وهو مكون إضافى لظاهرة الإرهاب تستخدمه الدول اليوم فى صراعات النفوذ والسيطرة وإرهاق الخصوم، ورغم رئيسية هذا المكون لكنه يظل «إضافة» و«استثمارًا» لظاهرة، وإيضاحها هنا لا يستهدف الهروب أو التغافل عن مكوناتها المحلية، ومعادلاتها التى تفرض امتلاكنا لمضاضات تدميرها بصناعة وطنية خالصة. والسلاح الوطنى فى هذه الساحة هو «الجهاز الأمنى» العامل على الملف الأمنى بكافة أقسامه وتفريعاته.
لذلك رفاهية الحديث عن التفاصيل وعمليات إرهابية بعينها وموجات التصاعد والانحسار، ربما لن تكون متوفرة غدًا فى محطة الحساب الختامى، والأحكام الجامعة التى ستحكم على جهد ونتائج عمل «الجهاز الأمنى» المصرى، فى تلك الحقبة التى يجمع الكافة على ثقل مهمتها وخطورة تهديدها لمشروع الوطن بكامله. وهذا سبب إضافى ورئيسى يدفع «الجهاز الأمنى» للتحلى بالقدر الواجب من الجدية والاهتمام بقياس أداءاته، والإسراع بالانفتاح على العقول القادرة على إحداث إضافة حقيقية، من دون الاستهانة بالخبرات العلمية والعملية المتوافرة داخل الجهاز ذاته وفى أجهزة دول صديقة ترحب بالتعاون لنقل واستنساخ آليات النجاح والتطوير. وهى مهام تتسم بالطابع التكتيكى العاجل الذى يؤكدها علم التخطيط الاستراتيجى، حيث يولى أهمية بالغة للتقييم والإمساك بمواطن الخلل، ويضع التطوير واستحداث الحلول غير التقليدية وتجربتها وقياس فاعلياتها لتنقيحها واعتمادها كدليل على نجاح هذا التخطيط. وهو نوع من الأداء الرصين المنفتح على آفاق التطور نجده اليوم غائبًا عن المشهد الأمنى، وليس المقصود به مكافحة الإرهاب أو ملاحقة الإرهابيين بالخصوص، وإنما المستهدف السعى لتطوير المشهد الأمنى برمته، حيث تظل أقسام العمل المختلفة تصب لصالح بعضها البعض، فالقاعدة الأمنية الذهبية تذكر بأنه ليس هناك مهمة بأفضل من غيرها، فخلل وتباطؤ الجزء يخصم ويشتت حصاد الكل.
ويبقى فى النهاية إقرار شخصى واجب، معلق فى عنقى وفى أعناق الكثيرين، حيث يظل ما اكتسبناه من علم وتجارب وخبرات عملية، الفضل الأول فيه لهذا «الجهاز الأمنى» الذى نتوجه بحديثنا اليوم إليه؛ ففى أروقته ووفق قيمه على أيدى أساتذته وقياداته، تشربنا كل مهارات الفكر والعمل. وأُشهد الله أن أمن الوطن وأمن المواطن ظلا هما المرجعية الرئيسية التى انطلق منها علمهم وعملهم، كما هو ذات المنطلق لهذا الحديث اليوم وفى الأسابيع القادمة، وفاء واحترامًا لهذا الجهاز الوطنى وأعضائه ودماء شهدائه الأبرار، الذين لولاهم لما تحدثنا ولا نظرنا لهذا المستقبل الذى نبغيه أفضل للقادمين من بعدنا.