الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
الفتنة والخيانة
أشد الفتن هي تلك التي تجعل الحليم حيران. وصاحب اللب لا لب له ولا عقل. هي تلك الأمور الملتبسة المتداخلة التي لا يكاد يتبين فيها الصديق من العدو أو يستبين. فكم فيها من عدو في ثياب صديق. وقد قالوا:
احذر عدوك مرة
واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق
فكان أعلم بالمضرة
غير أن الإسراف في هذا التوجس قد يفقدك كل الأصدقاء. حيث يتحول التوجس إلي مرض قاتل. وداء عضال لا فكاك منه. بحيث يشل تصرفات المرء. ويجعله شاكاً فيمن حوله وكل من حوله. بل إنه ليكاد يشك حتي في الجمادات. فالظن القائم علي مجرد التخمين أو التوجس هو المنهي عنه في قوله تعالي: "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم". أما الحذر أو الظن المبني علي علاماته وأماراته وشواهده فهو الذي يمكن أن يقال في شأنه: سوء الظن عصمة.
وإذا كان رب العزة قد وصف الفتنة في كتابه العزيز بأنها أكبر من القتل وأشد. فقال سبحانه: "والفتنة أكبر من القتل". وقال سبحانه: "والفتنة أشد من القتل". فإن ما نعيشه واقعاً حياً يؤكد مدي أثر الفتن في تدمير المجتمعات وإصابتها بما هو أشد وأنكي من القتل.
الفتنة تعني الدسيسة والوقيعة وإفساد ما بين الناس. وحمل بعضهم علي سفك دم بعض بأيدي بعضهم بعضاً. وتعتمد الفتنة علي إثارة الأحقاد والضغائن. وإثارة النعرات الطائفية والقبلية والعرقية والمذهبية. وإعلاء صوت المظلومية الكاذبة. وتتخذ من التشكيك في النوايا وقلب الحقائق وتشويهها مسلكاً خبيثاً للفرقة والهدم. وتتخذ من وسائل التواصل الحديثة والكتائب الإلكترونية للجماعات الإرهابية التي تدعمها منظمات وأنظمة راعية للإرهاب وممولة له. وسيلة لإثارة الفوضي والفتن والقلاقل.
ويزداد أمر هذه الفتن خطورة إذا ارتبط بالخيانة. وبخاصة خيانة الإنسان لوطنه. وقد تتجاوز الخيانة مستوي الأفراد إلي مستوي الجماعات أو التنظيمات. وقد تتجاوز ذلك إلي مستوي بعض الأنظمة التي تخون أمتها التي تنتمي إليها وأشقاءها الذين لا غني لها عنهم. وتسلك مسلك العمالة المقيتة لأعداء أمتها الذين يعملون علي تفكيكها وتفتيتها وإسقاطها. وتحويلها إلي دويلات أو كيانات صغيرة لا تسر صديقاً ولا تضر عدواً.
والخيانة مذمومة علي كل حال. يقول الحق سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" "الأنفال: 27". ويقول سبحانه: "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" "يوسف: 52". ويقول نبينا "صلي الله عليه وسلم": "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا أؤتمن خان" "متفق عليه" ويقول "صلي الله عليه وسلم": "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتي يدعها. إذا أؤتمن خان. وإذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر" "متفق عليه".
وقد حثنا ديننا علي توخي الحيطة والحذر. من أن نخدع أو نؤخذ علي غرة. فقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا" "النساء: 71". وقال سبحانه: "ود الدين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" "النساء: 102". وكان سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يقول: "لست بالخب. ولا الخب يخدعني". وكان المغيرة بن شعبة يقول: "لولا الإسلام لمكرت مكراً لا تطيقه جزيرة العرب". فالمؤمن كيس فطن.
وللخروج من هذا الخطر علينا أن نتحلي بمنتهي الفطنة واليقظة. وألا نمسك العصا من المنتصف. وأن ننحاز وبقوة وحسم إلي جانب البناء والتعمير في مواجهة الهدم والتخريب. إلي صناعة الحياة وعمارة الكون في مواجهة صناعة الموت والدمار. إلي جانب بناء الأوطان لا هدمها ولا بيعها ولا خيانتها. بل علينا أن نقف وبحسم في وجه الخونة والعملاء. وأن نكون إيجابيين تجاه أوطاننا لا سلبيين ولا خائفين ولا مرتعشين ولا مترددين. وعلينا أن ننحاز إلي جانب إعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية. وتعميق وترسيخ الانتماء الوطني في مواجهة دعاة الفوضي والفتنة والانحلال. حتي ننجو بأنفسنا وأوطاننا إلي بر الأمان. ونقضي علي الإرهاب الأسود الغاشم وداعميه ومموليه. ونقتلعه من جذوره. ونخلص العالم والإنسانية جمعاء من شره قبل أن يحرق الأخضر واليابس. "وما ذلك علي الله بعزيز".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف