المصرى اليوم
نيوتن
الذى بدأ المراجعات
كانت تربطنى علاقة وثيقة بالأستاذ هيكل- رحمه الله- كانت علاقة غير مهنية كمعظم علاقاته. كنت أجلس إليه. أستمع. أستمتع بالحديث معه. أناوشه بأفكار شتى. رده كان دائما حاضرا. سريع البديهة. فى جلسة معه قلت له إن الزمن تجاوز وسائل الناصرية. عبدالناصر كان يلجأ لأساليب بعينها لتحقيق مقاصده الحميدة. لتطبيق العدالة والمساواة والتنمية وغيرها. نعيش الآن فى زمن آخر. هذه الأساليب لم تعد ذات جدوى. ثبت فشلها عملياً. الزمن تجاوزها. وسائل الناصرية تحتاج لمراجعة. قلت له بصفتك كنت من أكثر المقربين لعبدالناصر وفكره. فالوحيد القادر على القيام بمراجعات للناصرية. ووسائلها. ويكون مقبولا من الناس هو أنت.

كان للأستاذ هيكل رد صادم. قال لى فلنترك عصر عبدالناصر كما هو. دون العبث فيه. دون محاولة التوغل فى تفاصيله. فلنترك تلك الفترة كما هى لتظل صندوقا أسود.

حضور الأستاذ هيكل كان طاغيا. يستطيع بأبسط الكلمات وبأسلوب تلقائى أن يسيطر على من يتحدث معه. لكننى كنت دائماً حريصا على استقلال عقلى. على الوفاء للأفكار التى تدور فيه.

أقول لأصدقائى إننى حين أقرأ كتابا. أقرأ من الشرفة. أطل على ما يجرى وما يساق. أراقبه محتفظا بمسافة تسمح لى بتقييمه. لا أتورط فيه. لا أصبح جزءا منه. هناك من يقرأ ولديه جنوح لاعتناق الأفكار. ككثيرين قرأوا لسيد قطب. أما أنا فأقرأ لأراجع أفكارى. قد أعدل من بعضها. وقد يرفض عقلى تماما ما هو مطروح. هكذا كنت وأنا فى حضرة هيكل. ظللت محتفظا بعقلى. لذلك لم أقتنع بإجابته على طلبى.

فكرت فى الأمر طويلا. إذا كان هيكل نفسه الأقرب لعقل عبدالناصر. مترددا فى إجراء مراجعات للفترة الناصرية. فما الحال بالنسبة للآخرين. الذين لم يحظوا بميزة القرب من الزعيم. هل يجرؤون على إجراء هذه المراجعات. الأستاذ رفض الفكرة. تجنب تقييم تلك الفترة. كيف أخطأ عبدالناصر وكيف أصاب. بالأمانة هدفى من طرح الفكرة كان إنصاف عبدالناصر. من خلال تحديث رؤاه.

ثم جاءت مفاجأة عمرى فهناك من أجرى تلك المراجعات. بشجاعة وأمانة لا مثيل لها. لم يكن هو غير عبدالناصر نفسه. بقى الموضوع سرا إلى أن عرفت فقط عندما قرأت محاضر اجتماعاته فى الاتحاد الاشتراكى. بدأها فى 3 أغسطس 1967. بعد مرور أقل من شهرين على النكسة. كشفت تلك المحاضر جانبا مهما من شخصية عبدالناصر. هذه محاضر مسجلة بصوت الحاضرين لكل جلسة. بصوت عبدالناصر شخصياً. عبدالناصر تحدث بصراحة مطلقة. عن نظامه الذى رآه يتفسخ. عن ضرورة التغيير. عن أصدقائه ورفاقه فى مجلس قيادة الثورة. تحدث عن الديمقراطية. عن قيمة المعارضة وأهميتها. عن البيروقراطية التى تمكنت من الدولة، بعد الحراسات وظهور القطاع العام. تحدث عن الجيش. ذكر الأخطاء والخطايا التى وقع فيها النظام. بشجاعة أقر بأنه المسؤول الأول عنها.

مراجعات عبدالناصر كانت موثقة. مسجلة على شرائط أو فى محاضر اجتماعات. أصبحت اليوم فى حوزة مكتبة الإسكندرية. هل يمكن أن ترى تلك المراجعات النور. لتفيدنا فى مراجعة واقعنا ومستقبلنا. أم أنه مقدر لنا أن يبقى حال مصر كما هو. دون الاستفادة من نظرية التجربة والخطأ. إلا أن ظهور تلك المراجعات يتعارض مع مصالح الكثيرين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف