د/ شوقى علام
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مبدأ جليل ونظام له قواعد تتجلى سماته فى أن المعروف اسم للمقبول المرضى به، وهو المؤدى للحق والموصل لأسباب الصلاح والعمران، والمنكر اسم لغير المألوف، والمراد به الباطل والفاسد عقلا وشرعًا عند انتفاء العوارض، وفيه يتم الجمع بانسجام بين النظر التشريعى والدور الرقابى والردع العقابي، ومن ثَمَّ فهو صورة من صور المحافظة على يقظة الضمير والانضباط المجتمعى من أجل تحقيق المبادئ العليا والمقاصد الكلية فى واقع الحياة بأسلوب حكيم، لذا حثَّ الله سبحانه الأمة على الأخذ به ومراعاته فى آيات كثيرة، ومنها قوله تعالي: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)[آل عمران: 104].
لكن أهل التطرف وجماعات التشدد يتعمدون اتخاذ هذا المبدأ ذريعة للاستعلاء بأفكارهم على الأمة عامة وخاصة، واعتبار أنفسهم فوق الدولة ومؤسساتها ودستورها وتشريعاتها، مستندين على فهمهم المغلوط للأدلة الشرعية والمقاصد المرعية التى تؤسس لمبدأ »الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر« فى جرأة وسطحية ومجازفة، ومن هذه الأدلة: قوله صلى الله عليه وسلم: »من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان«
ولو سألتهم عن ماهية المنكر الذى يستدعى التغيير، فضلا عن ضوابطه ومراتبه وكيفياته وأهله المنوط بهم ذلك؟ ستجد إجاباتهم تتلخص فى نقطة واحدة -رغم تنوع مشاربهم واتجاهاتهم- وهى أن المجتمعات المسلمة ما رفضت الإيمان بأصول هؤلاء وأفكارهم والنزول على نزواتهم إلا »لانقطاع الصلة بينهم وبين الدين« و«عموم الجاهلية« و«حصول الغربة« و«موالاة الكفار« و«عبادة الطاغوت«، ولا يخفى أن هذا الكلام المُجْمَل، وتلك المقدمات الموهومة الفاسدة فيها ما فيها من جرأة على دين الله تعالي، والهجوم على عقائد المسلمين سلفا وخلفا، وإساءة الظن وتوسيع دائرة التكفير على العموم، وإباحة الدماء المصونة المعصومة بيقين، وتكدير الأمن العام والسلام الاجتماعي.
ثم إن هذه التنظيمات التى تتخذ من هذا الواقع الموهوم والمنطلقة من هذه الترهات ترتب عليها كَرَدَّةِ فعل إنشاء كيانات مماثلة من مرجعيات أخرى تبنَّت ممارسة هذا الدور الرقابى والعقابى للمجتمع أيضًا فيما يرونه خطأ أو صوابًا، ويضاف إلى ذلك وجود إشكالية كبيرة عند التطبيق فى مدى التزام هؤلاء بالمبادئ والتشريعات على أنفسهم؛ فضلا عن الافتيات على ولى الأمر، فقد يُعاقَب المجرم - على فرض إجرامه - بغير ما قُرِّر له من العقوبة فى القانون، وقبل ذلك إدانته من قِبل هؤلاء بلا تحقيق أو دفاع، أو قد يُدان بغير ما يستوجب الإدانة أصلا؛ ثم إن إنزال العقاب يحصل بعد ذلك من غير ذى اختصاص، وكل هذا فى النهاية يقود المجتمع إلى الفوضى وإلى الخلل فى نظامه العام.
لقد أسهم هذا الخلل فى تناول هذا المفهوم من قِبل هؤلاء نظرية وتطبيقًا فى تعميق التشويه المتكرر لصورة الإسلام النقية والطمس المتعمد لحضارة المسلمين الخالدة؛ حيث أخذ المسلمون عبر تاريخهم بهذا المبدأ أخذا قويا حتى رتبوا من خلاله حياتهم بمختلف جوانبها، وهو آخذٌ فى التطور حسب معطيات العصر ومقتضيات الواقع؛ فأصبح يقوم به فى الدولة الحديثة مؤسساتٌ متعددة متناسقة فيما بينها من الأدوار والاختصاصات: كالجهات والأجهزة الرقابية والجهات الأمنية والجهات التشريعية والقضائية، والجهات التثقيفية والتعليمية، مع شمولها كل فئات المجتمع وطبقاته وملاحظة مستمرة عند التطبيق لتقليل الفجوات والثغرات التى تصنع التداخل والتقاطع فيما بين الواحدة والأخرى ما أمكن. وحاول أصحاب ذلك الفكر المتطرف إذاعة هذا الخلل الواضح الذى أنتج مفاسد خطيرة عانى منها كثيرا البلاد والعباد، وهذا ناجم عن انتكاسة فطرة هذه المجموعات وانقلاب الهرم المعرفى لديهم فباتت البدعة سُنَّة، والسنَّة بدعة، وصار المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وإنا لله وإنّا إليه راجعون.