علاء ثابت
مصر بين ثورتين: ضربة البداية واستكمال المسيرة
تحتفل مصر بعد غد بالذكرى الخامسة والستين لثورة يوليو 1952، التى تمثل نقطة التحول الأهم والأبرز فى تاريخ الشعب المصري. فمع ثورة يوليو شهد المصريون تحقيق ما ظلوا يحلمون به مئات بل آلاف السنين وهو استعادة الدولة لتصبح دولة للمصريين دونما احتلال أو وصاية من أحد، أو حتى بتولى قيادتها غير مصريين ولو كان ذلك بترحيب من المصريين على نحو ما تم مع محمد على باشا. بتعبير آخر فإن مصر لم تعد هى نفسها التى كانت قبل تلك الثورة ليس فقط على المستوى السياسى ولكن أيضا على المستويين الاقتصادى والاجتماعي. ومن ثم يصبح الاحتفال بالثالث والعشرين من يوليو هو ــ فى الحقيقة ــ احتفالا بالدولة المصرية. وبادئ ذى بدء، فإنه لابد من التأكيد على أن ثورة يوليو لم تكن استجابة لرغبة أو تطلع الضباط الأحرار فى تغيير الأوضاع والوصول إلى السلطة بقدر ما كانت استجابة لرغبة حقيقية لدى الشعب لم يتمكن فى ظل النظام القائم من التعبير عنها. إذ جاءت الثورة على خلفية سوء الأوضاع العامة فى مصر على مختلف المستويات السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. حيث الأمور فى مصر قد وصلت إلى وضع لم يكن ممكنا استمراره أو حتى التعايش معه، إذ كان هناك ما يسميه الدكتور يونان لبيب رزق »قلقا عاما« عرفته مصر خلال الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية. كما كان ما تعرض له الجيش المصرى من ضغوط بل و«إهانات» منذ عام 1942 عندما اقتحمت الدبابات البريطانية قصر عابدين وحاصرته، وفرض السفير البريطانى على الملك تولى حزب الوفد الحكم برئاسة مصطفى باشا النحاس، ثم تداعيات هزيمة عام 1948 وما تلاها من إصدار قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل.
كان لكل ذلك أثر كبير فى إشعال شرارة النضال الوطني، وفى بلورة الشعور الثورى فى الجيش الرافض إبقاء الأمور على ما هى عليه. وفى هذا السياق بدأ تشكيل تنظيم الضباط الأحرار بتكوين لجنة تأسيسية للتنظيم فى أواخر عام 1949 بقيادة البكباشى جمال عبد الناصر. وقد تزامن ذلك مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، حيث كان الشعب المصرى فى فترة ما قبل الثورة من أفقر شعوب العالم بمتوسط دخل للفرد قدره حوالى 118 دولارا فى العام، إضافة إلى تفاقم حالة عدم عدالة توزيع الدخل القومي، واستشراء الفساد فى كل المؤسسات، وصولا إلى التأكد من ترهل النظام السياسى وعدم قدرته على قيادة العمل الوطنى، بل وعدم قدرته على ضبط الأوضاع الداخلية فى ضوء أدائه إزاء حريق القاهرة فى يناير 1952.
لقد جاء تحرك تنظيم الضباط الأحرار لإنهاء ذلك الوضع واستعادة مصر من براثن الاحتلال السياسي والاقتصادي أيا ما كانت طبيعة ذلك الاحتلال. أما الشعب المصري وتحت وطأة الضغوط التي يتعرض لها فقد أيد ما قام به الضباط الأحرار فتحول الأمر إلى ثورة مكتملة الأركان، وكان لهم ما أرادوا وانتصرت ثورة يوليو ليس فقط في التخلص من الملك وأعوانه، وإنما أيضا في الوصول إلى توقيع اتفاقية الجلاء في عام 1954 وتنفيذ المبادئ الستة التي وضعتها الثورة، وأخيرا النجاح في التعامل مع التحديات التي واجهتها الثورة لاحقا سواء من الداخل ممثلة فى جماعة الإخوان المسلمين التي سعت للانقضاض على الثورة والتحكم في مسيرتها، أو من الخارج ومحاولاته عرقلة مشروع الثورة عبر العديد من المؤامرات. بمعنى آخر فقد كانت ثورة يوليو بمثابة ضربة البداية في تجسيد حلم الدولة المصرية وتحريرها من المحتل الأجنبي، حيث سحبت القرار المصري من قصر الدوبارة مقر المعتمد البريطاني، كما أنها كانت البداية الحقيقية للوقوف في وجه جماعة الإخوان المسلمين وسعيها لفرض مشروعها أو تصورها المتشح برداء الدين على المصريين.
لقد كان هدف الثورة وقياداتها واضحا منذ اليوم الأول وهو أن التحرير السياسي على أهميته غير كاف لتأمين نجاحها واستمرارها وتحصينها من محاولات الانقضاض عليها، بل لابد من إحداث تحرير اقتصادي واجتماعي يقوم على تعديل وضع توزيع الدخل القومي، وهو ما حدث بالفعل من خلال قيام الدولة بدور كبير ومركزي في المجال الاقتصادي من خلال القطاع العام وتأميم رأس المال الأجنبي وقوانين الإصلاح الزراعي مما أدي في النهاية إلى القضاء على مجتمع النصف في المائة الذي كان السمة الأساسية لمصر ما قبل الثورة. وبصرف النظر عما إذا كانت الثورة عبر مسيرتها قد نجحت في تحقيق بعض أهدافها أو فشلت وتأخرت في تنفيذ البعض الآخر، فإن ما يبقى لها هو النجاح في تحرير القرار المصري واستعادة مصر لأهلها، وايجاد نموذج في الاستقلال الوطني أصبح ملهما للعديد من دول المنطقة.
وفي الواقع، فقد واجهت دولة يوليو عبر ستين عاما الكثير من التحديات والمؤامرات الخارجية عرقلت مسيرتها على نحو ما تم في حرب عامي 1956 و1967، ولكنها لم تنل من الإنجاز الرئيسي للثورة المتمثل في استعادة الدولة المصرية، إلى أن جاء التحدى الأخطر لمصر والذي كاد يودي بهذا الانجاز. هذا التحدي هو قفز جماعة الإخوان على السلطة في مصر عقب استيلائها على نتائج ثورة يناير 2011 وحصدها الأغلبية في البرلمان المصري بغرفتيه، ثم وصول أحد أعضائها لسدة الرئاسة في عام 2012. وهكذا بدا للجماعة أنها قد نجحت فيما فشلت فيه قبل نحو ستين عاما وهو خطف الدولة المصرية واستغلال مقدراتها خدمة لمشروع الجماعة الذي تأخر أو تعطل تنفيذه تحت وطأة الصدام القوي بين الثورة وجماعة الإخوان وما تلا ذلك من سياسات اتبعتها الدولة المصرية أجبرت الإخوان على اتباع سياسات تنأى بها عن الصدام مع الدولة، فتظاهرت الجماعة لما يقرب من نصف قرن بأنها لا تهدف للقفز على السلطة وأنها مجرد جماعة دعوية. وخلال عام حكم الإخوان تعرضت ثورة يوليو لموجة شديدة من الانتقاد ومحاولات التشويه، عبرت عن نفسها في العبارة الشهيرة «الستينيات وما أدراك ما الستينيات» بكل ما حملته من تأكيد لاستمرار كراهية الإخوان للثورة ومشروعها بكل ملامحه ونتائجه. وجاءت ثورة 30 يونيو لتمثل الموجة الثانية من استعادة الدولة المصرية وتأمينها وتحرير مصر مما يمكن تسميته الاحتلال الإخواني بكل امتداداته الإقليمية والدولية. حيث استعادت ثورة يونيو القرار المصري من المقطم مكتب الإرشاد والمرشد العام للجماعة ليعود إلى قصر الاتحادية مقر حكم الدولة المصرية كما يعرفه المصريون.
وبكل تأكيد، فإن الاحتفال بثورة يوليو خلال السنوات التالية لثورة يونيو 2013 قد اختلف كثيرا عما كان عليه قبل عام 2011 بل حتى عما كان عليه خلال العامين التاليين لثورة يناير 2011. فخلال السنوات السابقة ليناير 2011 تضاءل الاحتفال بثورة يوليو حتى أصبح احتفالا روتينيا أبقى فكرة الثورة ومنجزاتها بعيدا عن لب الحوار العام في المجتمع. أما الاحتفال بيوليو عقب ثورة يناير 2011 فقد اكتسى في الغالب بمحاولات جماعة الإخوان تشويه تلك الثورة. غير أن الوضع قد تغير تماما عقب ثورة يونيو 2013، حيث رأي المصريون فيها الاستكمال الحقيقي لأهداف ثورة يوليو وفي القلب منها بناء دولة مدنية حديثة، ولأن التحديات التي واجهتها ثورة يوليو هي نفسها التي تكابدها الآن ثورة يونيو. فإذا كانت ثورة يوليو قد عانت من الإخوان، فإن ثورة يونيو ما زالت تحاول القضاء على الإرهاب الذي يقف خلفه الإخوان ومن لف لفهم. وإذا كانت ثورة يوليو قد عانت من تكالب القوى الدولية عليها لإفشال مشروعها، فإن ثورة 30 يونيو عانت منذ اليوم الأول حصارا وهجوما غربيا نجحت في تحويله إلى اعتراف كامل بها تماما كما فعلت ثورة يوليو بعد عدة سنوات بتصديها لكل المحاولات الغربية التي عملت على إجهاض مشروع الثورة سياسيا واقتصاديا. وإذا كانت ثورة يوليو قد دخلت في صدام مع الإقطاع ونجحت في التعامل معه بقوانين الإصلاح الزراعي، فإن ثورة يونيو مازالت تحارب لاستعادة أراضي الدولة وتعظيم الاستفادة منها.
يبقى في النهاية التأكيد على أن الاحتفال بالمناسبات المفصلية في تاريخ الأمم مثل الاحتفال بذكرى ثورة يوليو لابد أن يكون مناسبة لإعادة القراءة واستخلاص الدروس بهدف تلافي الأخطاء التي وقعت في مسيرة تلك الثورة منذ عام 1952 وما تلاه حتى يمكن استكمال مسيرة تأمين الدولة المصرية التي خرجت من رحم الثورة من كل الأخطار الداخلية والخارجية التي تحدق بها.