السيد الغضبان
أحمد سعيد.. الصوت المقاتل
تشرف وزراء الإعلام العرب بتكريم أحمد سعيد. نعم تشرف الوزراء بهذا التكريم، لأنهم أثبتوا بهذا التكريم انهم يعرفون قيمة وقامة الشخصيات الاعلامية التي أدت خدمات جليلة للشعوب العربية.
كان أحمد سعيد منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي (القرن العشرين) وحتي هزيمة يونية 1967، كان يمثل لكل مواطن عربي من الخليج إلي المحيط أيقونة الثورة ضد قوي الاستعمار التي كانت في هذا الوقت تحتل البلاد العربية وتقمع أي تحرك يحاول تخليص البلاد من هذا الاحتلال العسكري. كانت قوات الاستعمار التي تحتل جميع البلاد العربية تبطش بكل عنف بمن يجرؤ علي المطالبة برحيل الاحتلال. وكانت الشعوب العربية مكبلة بالخوف من بطش قوي الاستعمار الذي لا يتردد من العصف بأي تحرك يبدي مجرد التململ من الاحتلال العسكري، وإذا ارتفع صوت حر يطالب بالتحرر تم البطش به بكل عنف ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه مجرد المطالبة برحيل قوات الاحتلال.
كانت بداية أحمد سعيد وهو الشاب الذي تخرج في كلية الحقوق والتحق بالإذاعة المصرية، كانت بدايته مع الفدائيين المصريين الذين شكلوا مجموعات تهاجم معسكرات القوات الانجليزية في منطقة القناة، تقدم أحمد سعيد بطلب إلي المسئولين عن الاذاعة المصرية ليقوم بتسجيل بعض العمليات الفدائية، وافق المسئولون علي طلبه واصطحب معه مهندساً للصوت (موسي المجدوي) وهو شاب أفغاني لاجئ في مصر.
رافق أحمد سعيد وزميله موسي المجدوي الفدائيين المصريين وسجلا عدداً من العمليات الفدائية التي اقتحمت بعض المعسكرات للقوات الانجليزية.
كانت القيادة السياسية في مصر في ذلك الوقت قد قررت اطلاق إذاعة جديدة لدعم حركات التحرير علي امتداد الوطن العربي كله، أطلقت القاهرة إذاعة «صوت العرب» وتولي رئاسة هذه الاذاعة الشاعر «صالح جودت» والتحق أحمد سعيد بهذه الاذاعة الوليدة التي رأي فيها تحقيقاً لحلمه بأن يواصل مطاردة قوي الاستعمار في كل مكان من البلاد العربية.
لم تمض سوى بضعة شهور حتي تولي أحمد سعيد موقع القيادة في «صوت العرب» وبدأ فوراً في وضع تصور لبرامج هذه الاذاعة التي تبث لمدة ساعتين كل يوم.
لم يحصل الرجل علي أية امكانيات تعينه علي أداء المهمة الخطيرة التي يتولاها، أقصي ما حصل عليه تخصيص ستديو صغير يبث منه علي الهواء مباشرة لمدة ساعة والنصف وتعاونه المذيعة نادية توفيق ومهمتها الحصول علي بعض الأغنيات والأناشيد من البلاد العربية، هكذا بدأت «صوت العرب».
كان أحمد سعيد يقدم أخبار البلاد العربية ويركز علي كل ما له صلة بمقاومة الاستعمار وعقب الأخبار يقدم تعليقاً يصوغه بعبارات نارية ضد الاستعمار وأعوان الاستعمار، كانت هذه هي الفقرة الأساسية وأطلق عليها مسمي «كفاح العرب».
اعتمد أحمد سعيد علي الخطاب التعبوي والتحريض ضد قوي الاستعمار، ودعا إلي مواجهة الاحتلال العسكري بكل الوسائل الممكنة، وركز علي هدم حاجز الخوف الذي كان يشل حركة قوي التحرير العربي.
وحققت إذاعة «صوت العرب» أول انتصار كبير علي الاستعمار الفرنسي عندما قام أحمد سعيد بشن حملة بالغة العنف ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب عندما قامت قوات الاحتلال الفرنسي بخلع الملك محمد الخامس ملك المغرب ونفيه، انتهت حملة أحمد سعيد برضوخ قوي الاستعمار الفرنسي وعاد الملك محمد الخامس إلي عرش المغرب.
وتوالت معارك «صوت العرب» مع قوي الاستعمار وأعوانه في كل بلد عربي محتل، وكانت ذروة انتصار «صوت العرب» في ملحمة الثورة الجزائرية، وتعددت انتصارات «صوت العرب» بقيادة أحمد سعيد وتوالي رحيل قوات الاستعمار من البلاد العربية.
وعندما بدأت أمريكا تحركاً نشطاً لترث الاستعمار الانجليزي بإقامة الأحلاف طارد أحمد سعيد الهيمنة الجديدة وتم إجهاض حلف بغداد.
وتتواصل معارك «صوت العرب» ورمزه أحمد سعيد وتلتف الشعوب العربية حول هذا «الصوت» الذي يعبر عن الحرية.
كانت فكرة القومية العربية فكرة تتردد في منتديات النخب الثقافية العربية، هذه الفكرة المحصورة في ندوات النخبة حولها أحمد سعيد إلي واقع عملي تعيشه وتتحمس له الجماهير العربية بكل فئاتها.
وعندما زلزلت الشعوب العربية بهزيمة مصر الساحقة في 1967 وجه الجميع السهام إلي أحمد سعيد بتهمة التغرير وخداع الجماهير.
والحقيقة ان أحمد سعيد كان أحد المذيعين الذين أذاعوا البيانات العسكرية الرسمية، لم يكن أحد يستطيع أن يغير فيها حرفاً واحداً.
لكن الجماهير كانت تتابع الاذاعة لحظة بلحظة فلما اكتشفت الهزيمة القاسية وجهت غضبها واتهاماتها إلي الاذاعة، وكان لأحمد سعيد النصيب الأكبر من الاتهامات لأن أنظمة حكم عربية كثيرة رأت فيما حدث فرصة للانتقام من أحمد سعيد الذي كان يهاجمها بعنف لتعاونها مع قوي الاستعمار.
أصاب زلزال الهزيمة أحمد سعيد بظلم فادح.. تحمل الرجل هذه الاتهامات الظالمة، وعندما طلب منه أن يخفف من لهجة التعبئة حتي تبدأ مرحلة إعادة بناء القوات المسلحة رفض أن يغير من أسلوبه وأن يخاطب الجماهير العربية بغير اللهجة التي كان يخاطبها بها لسنوات، وقال: «لن أخون الجماهير التي وثقت بي وسأظل أعارضها علي الاستمرار في القتال وقدم استقالته وترك موقعه. هذه لمحات من شخصية أحمد سعيد ونضاله الشريف وسيظل صدي «صوته المقاتل» يتردد في جنبات الوطن العربي.
وعندما يكرم وزراء الاعلام العرب أحمد سعيد هذه الأيام فهم بهذا التكريم يكسبون ثقة الجماهير لأنهم عرفوا قيمة وقامة مناضل عربي جسور.