د . محمد حسين ابو الحسن
الجيش المصرى.. والخواء الاستراتيجى
أختلف مع السياسات المتبعة حاليا فى عدة ملفات، خاصة الاقتصاد، لكن أتفق مع توجهات الرئيس السيسى تماما فى أمور، أهمها إعادة بناء الجيش المصرى على نحو مبهر، وتحديث ترسانته بأرقى نظم التسليح، كما ونوعا، وسط تحديات قاسية، حتى انتزع المرتبة العاشرة بين أقوى جيوش العالم، والأولى عربيا وإفريقيا، وفقا لتصنيف «جلوبال فاير باور» للعام الحالى، على نحو ما تناقلت وكالات الأنباء.
من المؤكد أن هذه أخبار غير سارة لأعداء ومنافسين، يزرعون الألغام فى طريق مصر، يثيرون زوابع الشكوك، حول نواياها من وراء تحديث جيشها، وتكلفة التحديث وميدان استخدامه، ولأن الأسماك الكبيرة تعجز عن العيش بسلام فى حوض صغير، لابد من التحذير من الاسترخاء لدغدغات من مثل هذا النوع من «التصنيفات» أو الاستسلام لشراك الخداع والتربص، من جانب قوى إقليمية ودولية، لها أذرع طويلة بالداخل المصرى- للأسف - تمارس التخريب والإرهاب، ممثلة فى جماعات الإسلام السياسى، أداة الاستعمار القديم/الجديد فى تمزيق أوصال دول الشرق الأوسط، «حصان طروادة» الذى تتسرب عبره المخططات الصهيو - أمريكية، أسهمت بريطانيا بإنشاء جماعة الإخوان فى ثلاثينيات القرن الماضى، ودشنت أمريكا تنظيم القاعدة فى الثمانينيات، وأقر الكونجرس الأمريكى مشروع تقسيم المنطقة إلى دويلات عام 1983، لتكون إسرائيل قوة وحيدة مهيمنة، ونشرت كوندوليزا رايس وزيرة خارجية بوش الابن خطة «الفوضى الخلاقة» المستوحاة من نظرية «تأثير الفراشة» فى الديناميكا الهوائية، لتعصف بجيوش العراق وليبيا وسوريا وغيرها. الميديا الإسرائيلية تتحدث عن «أسلحة مصر وأنيابها الكبيرة»، سربت مجلة «يسرائيل ديفينس» خطة «عوز»، استعدادا للمواجهة العسكرية مع مصر، حال نشوبها مستقبلا، بينما تقتنى الدولة العبرية أرقى أنظمة التسليح والتكنولوجيا الهجومية فى العالم.
أسهمت القوى الاستعمارية فى إجهاض التجارب النهضوية، عند محمد على باشا والخديوى إسماعيل وجمال عبدالناصر، لإنهاك القوة العسكرية المتنامية، لتتقوقع مصر داخل حدودها لاعقة جراحها، زرعوا إسرائيل شوكة مسمومة فى خاصرة المنطقة، حدد مؤسسها بن جوريون عقيدتها الأمنية، بقوله: «إن أمن إسرائيل يتحقق عندما تكون أقوى عسكريا من أى تحالف عربي»، وجودها مرهون بانهيار المجتمعات العربية، وللإنصاف تحقق للدولة العبرية ورعاتها كثير مما حلمت به، تعيش الدول العربية حالة خواء استراتيجى وفراغ قوة مريع، ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، يتداعى الجميع على المنطقة لاستحلاب ثرواتها أو الإجهاز عليها بعد ذلك، ومن ثم تتجلى «المهمة المستحيلة» للجيش المصرى، بوصفه القوة الوحيدة القادرة على علاج الخلل فى موازين القوى، وهو بالتأكيد أمر لا يسر إسرائيل و تركيا وإيران وإثيوبيا، أو حتى بعض الأشقاء.. كأنهم يضعون «فيتو» على أن تستجمع «المحروسة» قواها، أو تطفئ حرائق المنطقة وسط بحار الدمار والإرهاب المفجع، أو تتحرك فى محيطها العربى والإفريقى حيث منابع الحياة، دون إذن من أحد، إن القوات المسلحة رمانة الميزان لمصر ولشعوب الأمة. منحت مصر للبشرية عطايا تزهو بها، على العالمين: الدين والزراعة والدولة والجيش والحضارة.. ومنذ وحدها الملك مينا، وجمع بين نسر الوجه القبلى وثعبان الوجه البحرى، ظل وجود أقدم «دولة/حضارة» مرتبطا بجيشها، مد ظلها فى التاريخ والجغرافيا، بقوته تنامت وبقيت متفردة فى إشعاعها أونكباتها، ترسخ فى الوجدان والعقل المصرى أن لا قيام للدولة ولا بقاء لقوامها ولا استقرار لسيادتها، دون مؤسسة عسكرية قوية، حتى عد المفكر الكبير الدكتور أنور عبدالملك مصر (مجتمعا عسكريا)، ولا شك فى أن وقائع الزمن وشواهد الواقع تؤيد هذا الرأى منذ أحمس حتى السيسى.
فى 25 يناير و30 يونيو انحاز الجيش كعادته - إلى الشعب، فاز الشعب بثورته واحتفظ الجيش بقوته، جيش مصر خير أجناد الأرض، يراه «الإخوان» العائق الوحيد أمام وهم (أستاذية العالم)، يحاولون الإجهاز عليه من بوابة الإرهاب والفتنة والعنف الأعمى، انطلاقا من سيناء لتفكيك الوطن، امتثالا للمخططات الاستعمارية المتجددة، وذاك سبب كاف كى تواصل مصر تطوير الجيش دون ملل أو كلل أو سقف، بالتوازى مع «إصلاح الاقتصاد» وغرس العدالة الاجتماعية - مازالت بعيدة - فالضعفاء لا يتقدمون، إنما يتقهقرون إلى الخلف.
ذات يوم قال الزعيم الصينى شوان لاى: «لا يهمنى ماذا يقول الآخرون، يهمنى موقفى الداخلى»..إن طموحات البشر إلى الأمن والحرية والعدل والازدهار تصوغ للمجتمعات «أهدافها الكبرى»، وتيارات التاريخ تعطى لأفراد ما، فى لحظات حاسمة من عمر الأوطان، فرصة كى تتحول «الأهداف» إلى حقائق، لو امتلكوا كفاءة وشجاعة الإمساك باللحظة، ولم يفلتوها.