التحرير
عمرو حسنى
أديب الأطفال المغرور
على مدى سنوات شرفت فيها برئاسة تحرير مجلة "قطر الندى"، قرأت مئات القصص التى كان يرغب مؤلفوها أن يتم رسمها ونشرها على صفحاتها، ولو كان الأمر بيدى لما أكملت قراءة غالبية تلك القصص إلى نهايتها، لكن طبيعة عملى كانت تلقى على كتفى أمانة تلزمنى بمطالعة كل ما يصلنى ولو مرغمًا. كثير من تلك القصص كان يتحدث عن كائنات أصابها الغرور: الأرنب المغرور، الفراشة المغرورة، الأسد المغرور، الهدهد المغرور .. إلخ.. إلخ.. إلخ. الغريب أن المؤلفين لم يدركهم اليأس مطلقا بعد وقوعهم فى مأزق استخدام كل الكائنات الحية التى لم يفلت منها واحد دون أن يدركه الغرور، بل تفتقت أذهانهم عن البدء فى كتابة قصص (جديدة) أبطالها من الجمادات المغرورة! على أثر ذلك الاكتشاف الهائل، أتحفنى الجميع بقصص عن المصنوعات الجلدية المغرورة كالحقائب والأحذية، مرورًا بوسائل المواصلات المغرورة كالسيارة والترام، حتى وصل بهم الأمر إلى السحاب والبحار والجبال التى أدركها الغرور! لم يعد ينقصنا إلا كتابة قصص عن المعانى المغرورة كالصباح والغناء والظلام والسعادة! صار الأمر مستفزًّا إلى درجة جعلتنى أكتب قصة عنوانها: أديب الأطفال المغرور! «جلس أديب الأطفال إلى مكتبه المزدحم بالأوراق والأقلام المتناثرة. قال لنفسه سأصنع فنجانًا من القهوة وأكتب أجمل القصص كعادتى. نظر فى زهو إلى الرف القريب الذى يرص عليه مؤلفاته الكثيرة. لم يكن يدرك أن أغلبها لا يمكن اعتباره قصصًا على الإطلاق، بل شذرات من معلومات علمية مبتسرة تم حشرها عنوة فى سياق مفتعل يبرر وجودها. نتف من حكايات تراثية لاكتها الأفواه ولفظتها الأقلام حتى وصلت إلى درجة الاهتراء. وعظ ممجوج عن كائنات مغرورة، يتدثر بمواقف مملة لا تتصاعد دراميًّا ولا تتضمنها أى براعة فى الحكى. نصوص خالية من التشويق والمتعة تنقصها الطرافة ويفسدها التوقع المؤكد لأحداث تخلو من عنصر المفاجأة ومن طزاجة الدهشة.

هى كتابات تشبه طعامًا باردًا تم تخزينه فى الثلاجة وتسخينه مئات المرات حتى فقد قيمته الغذائية وطاله الفساد. جلس أديبنا المغرور وكتب كل ما يخطر على باله باستهانة وانتشاء لا حدود لهما. لم لا؟ وكتبه يشتريها الأهل لأبنائهم وتعاد طباعتها وتمنح لها الجوائز. لم يكن ينقص أديبنا إلا شىء وحيد لم يشغل باله مطلقا: أن يستمتع الأطفال بما يكتب. لكنه فهم تلك الحقيقة المفزعة بعد أن مر بتجربة منحته لحظة صدق نادرة مع النفس. كان مطلوبًا منه أن يقوم بالتحكيم فى مسابقة لكتابات الأطفال. أرسلت له الهيئة التى تنظمها بكل القصص التى وصلت إليهم بالبريد من الأطفال فى مختلف محافظات القطر على اختلاف بيئاتهم ومستوياتهم الاجتماعية. ثلاثة آلاف ومائة وثمانية وستون قصة. وجد نصفها يحكى عن كائنات مغرورة، والنصف الآخر يتحدث عن مواقف يدلل بها كاتبوها الصغار على أن هناك معانى سامية أفضل من نقائضها الرديئة، لكى يتحفونا فى نهايات قصصهم بأن الصدق أفضل من الكذب، وأن الشجاعة أفضل من الجبن! اكتشف أديبنا كيف أساء إلى الأطفال عندما وجدهم يتحولون بفضل كتاباته، هو ورفاق دربه الممل، إلى آلات مبرمجة على كتابة أشياء سخيفة ينقصها الخيال والطرافة والتشويق. أدرك كيف استهان بعقولهم بقوالبه الجاهزة التى تتحدث دوما عن الكائنات المغرورة وكيف أن الجندى الشجاع أفضل من زميله الجبان! وأن التسامح أفضل من الكراهية! فقال لنفسه ساخرًا: كيف فاتنى أن أكتب قصة تقول إن العلاج أفضل من المرض؟! فى تلك اللحظة أضمر صاحبنا شيئًا فى نفسه. قرر أن يطهر ضميره ويبرئ ذمته. فى يوم الاحتفال صعد إلى المنصة قال للأطفال بهدوء: كلكم نشأتم على معرفة أن الشجاعة والصدق أفضل من الكذب والجبن. لذا أعلن أمامكم بمنتهى الصدق وبكل شجاعة، أننى قد أسأت إليكم وأننى أستحق إدانتكم الكاملة، وأن انسحابى من حياتكم لا يشفع لى فى طلب عفوكم. ثم هبط من المنصة مغادرًا بين دهشة الحضور. هرول خلفه منظمو اللقاء، لم يلتفت لأحد، بين ذهول الجميع خرج إلى الطريق. أشار شاردًا إلى سيارة أجرة لتقله إلى بيته. جلس على المقعد الخلفى يتذكر مؤلفاته الكثيرة التى يضعها على الرف المواجه لمكتبه، ثم أخذ يتحسس علبة الثقاب فى جيبه». قصة فى مقال كتبتها منذ أعوام وأعيد نشرها اليوم فلربما تشرح ما أواجهه من صعوبات فى اختيار كتابات جديدة للناشئة لسلسلة ثلاث حواديت الصادرة عن هيئة الكتاب، وتبعث برسالة إلى شباب الأدباء ليتواصلوا معى على بريدى الشخصى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف